17 مليون أمّي في مصر.. غياب الوعي يهدد الجمهورية الجديدة

تخبّط أولويات الحكومة يتجلى في الإصرار على بناء الحجر قبل البشر.
الأحد 2023/09/17
اتساع دائرة الأمية لدى الأفراد يسهل عملية احتوائهم

ترتفع نسب الأمية في مصر بشكل لافت ما من شأنه أن يزيد من المشاكل الأسرية وينعكس سلبا على تعاملها مع قضايا مثل ختان الإناث وعمالة الأطفال وزواج القاصرات. ويرى متابعون أن الحكومة تتحمل مسؤولية فشلها في التقليل من نسب الأمية وبث الوعي بين أفراد المجتمع في حين ترفض أن تتحمل وحدها مسؤولية ذلك، وترى أن القضية متوارثة من حكومات سابقة.

القاهرة - شكّل الإعلان عن وجود 17 مليون مواطن أمّي في مصر صدمة للكثيرين، وأثار تساؤلات عديدة حول انعكاسه على الجهل المجتمعي، وما يترتب عليه من أميّة ترتبط بغياب الحد الأدنى من وعي تحتاجه الدولة في مواجهة التحديات.

وقال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (مؤسسة حكومية معنية بالإحصاء) إن معدلات الأمية بين الفئة العمرية 60 عاما فأكثر بلغت 53 في المئة، ووصلت في الشريحة الأقل من 40 عاما إلى 7.6 في المئة، وبلغت نسبة الأميين بين الذكور 12.4 في المئة، بينما وصلت بين الإناث إلى 22.8 في المئة.

وارتبط الغضب من الأمية بأن الحكومة لم تعلن عن خطط واقعية ولم تضع هذه القضية في قائمة أولوياتها كما تتعامل مع المشروعات التنموية الكبرى، على الرغم من أن الأموال الضخمة التي تنفق على بناء الجمهورية الجديدة لن تكون ذات قيمة ما لم تكن هناك عقول بشرية تحميها، ويفترض أن يكون اهتمام الحكومة ببناء البشر له أولوية على بناء الحجر، وليس العكس، إذا أرادت تحقيق تنمية مستدامة.

واعترف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بصعوبة القضاء على المشكلات المجتمعية والأسرية المعقدة أمام زيادة معدلات الأمية وانخفاض منسوب الوعي، ودلل على ذلك بمحاولة الحكومة القضاء على العشوائيات ونقل العائلات إلى مناطق سكنية جديدة، لكن الجهل انتقل معهم.

كمال مغيث: أي خطط للتنمية مهددة بالخطر بسبب ارتفاع معدلات الأمية
كمال مغيث: أي خطط للتنمية مهددة بالخطر بسبب ارتفاع معدلات الأمية

وتعاني الحكومة عند مخاطبة المواطنين لإقناعهم بالإيجابيات وصعوبة التحديات، حتى أنها أخفقت في تحصينهم من الأفكار المغلوطة والمتطرفة، ولم تُدرك أن تعاملها بقلة الاكتراث بأزمة خطيرة مثل الأمية قد يضعها في قطيعة مع الملايين من المواطنين.

ويحظى ملف الوعي باهتمام رئاسي، وطالب السيسي المصريين بأن يكونوا حذرين من الانسياق وراء دعوات هدم الدولة وسعي بعض التنظيمات للعب على وتر الفقر والأمية، لكن الحكومة لم تستوعب بعد هذه المخاطر التي لا يزال الجهل وقودها.

وترفض الحكومة أن تتحمل وحدها فاتورة ارتفاع معدلات الأمية، وترى أن القضية متوارثة من حكومات سابقة، لكنها لا تتعامل بنفس المنطق مع ملفات أخرى، بدليل أنها تبرر المشروعات القومية بضرورة عدم الاستسلام للتركة السيئة التي ورثتها.

ويعكس تجاهل الحكومة لأزمة الأمية حجم التخبط في خطابها، لأنها في كل مناسبة تُتهم بانتهاك حقوق الإنسان ترد بأن لديها مفهوما خاصا لهذه الحقوق يرتبط ببناء الإنسان وتثقيفه وتعليمه وتوفير سكن ملائم له وإنقاذه من الجهل والفقر، لكنها أخفقت في المسار الذي وضعته لحقوق الإنسان ورفضت اختزال القضية في النواحي السياسية.

وأعلنت الحكومة مؤخرا عن تشكيل مجلس أعلى للوعي، لكنه يفتقد إلى الإستراتيجية الخاصة بمحاربة الأمية، ويكتفي بالتطرق إلى قضايا أخرى تتعلق بالفكر والثقافة والولاء الوطني، دون إدراك لوجود قاعدة عريضة من السكان منفصلة عن الواقع ويمكن بسهولة استمالتها وتوظيفها لضرب الاستقرار بسبب جهلها.

ويرى مراقبون أن الحكومة وهي تعرب عن امتعاضها من عدم تجاوب المجتمع معها حيال قضايا مثل الزواج المبكر وختان الإناث وعمالة الأطفال وحرمان الفتيات من التعليم وخفض الإنجاب لمواجهة الانفجار السكاني، لم تستوعب أنها جزء من الأزمة عندما تركت الملايين من المصريين بلا تعليم حقيقي أو وعي عميق.

تشكيل مجلس أعلى للوعي، يفتقد إلى الإستراتيجية الخاصة بمحاربة الأمية، ويكتفي بقضايا أخرى تتعلق بالفكر

وقال كمال مغيث عضو المركز القومي للبحوث التربوية (جهة حكومية) إن أي خطط للتنمية مهددة بالخطر بسبب ارتفاع معدلات الأمية، والتي طالت النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستمرار هذا الوضع ينذر بعواقب وخيمة.

وأشار لـ”العرب” إلى وجود ميراث للتطرف الفكري مصدره تغييب الوعي، والنجاح الحقيقي لا يقف عند القضاء على التنظيمات والتيارات المتشددة، لكن في علاج آثارها ورواسبها ونشر ثقافة التعلم وتحصين الناس من العبث بعقولهم وحثهم على عدم ممارسة العنف والخضوع للأفكار الهدامة.

وذكر مغيث أن التحدي الحقيقي الذي يهدد استقرار المجتمع يتعلق باتساع دائرة الأمية بشكل يسمح لأي فصيل سياسي أو ديني باستمالة هذه الشريحة، كونها لا تدرك طبيعة التمييز بين الصواب والخطأ، ويمكن توجيهها أمام قلة الوعي.

ويظل الخطر في انهيار قيمة تعليم الأبناء عند شريحة كبيرة تعاني من الأمية، ما ينعكس بشكل سلبي على المجتمع ويمهد لجيل جديد من الأميين ويصبح الجهل متوارثا أمام ارتفاع الفقر وتفشي الغلاء وندرة الموارد ليسقط التعليم من قائمة اهتمامات بعض الأسر.

واعترفت الحكومة بأن ضعف قيمة التعليم عند الأهالي سبب رئيسي في الهجرة غير الشرعية، مع أنها تعهدت بتقديم حزمة من الحوافز للبسطاء في المناطق النائية والمحرومة، لكنها لم تتحرك لنشر التعليم، وربما أسهمت في تحويله إلى سلعة يشتريها القادرون على دفع كلفتها.و

Thumbnail

تغيرت نظرة بعض المصريين إلى التعليم من أنه استثمار آمن للأبناء إلى عبء ثقيل، مع اتجاه الحكومة لتحصيل مصروفات مرتفعة جراء انخفاض موازنة التعليم سنويا وعدم ملاءمتها للاحتياجات الواقعية، ما أدى إلى وجود نحو مليون متسرب سنويا من المدارس.

وأمام ارتفاع منسوب الأمية من الطبيعي أن تتراجع قدرة الحكومة على تغيير الواقع إلى الأفضل على مستوى تكريس قيم التعايش والتسامح ومواجهة الفقر والتنمية المستدامة والترابط المجتمعي ومكافحة العنف.

ولأن الفقر ظاهرة متجذرة في مصر، فإن بعض المؤشرات تقول إن معدلاته مرشحة للزيادة مهما كانت خطط الحكومة والمبادرات الرئاسية فعالة في مواجهته، لأن الأمية تقود إلى مضاعفة معدلات البطالة وانخفاض نسبة العمالة الماهرة، وهي مشكلة يتم تصديرها للحكومة باستمرار، ولا تجد حلولا سريعة لها.

ومهما برّأت الحكومة ساحتها من انتشار الأمية سوف تظل في نظر البعض متهمة بالتراخي في مواجهة الجهل وتغييب الوعي لدى شريحة كبيرة بحجة أن المجتمع كلما كان واعيا ومثقفا ومدركا لحقوقه قد يصعب توجيهه وخداعه سياسيا.

15