يوتيوب وفيسبوك: جهازا الرقابة العابران للقارات

على الرغم مما تحاول مواقع التواصل الاجتماعي إثباته من أنها تعمل على التصدي للأخبار المسيئة والملفقة وأنها لا تنحاز إلى أي أطراف سياسية في لعبة الانتخابات بأي بلد، إلا أن تتبع مسار الأحداث في العالم يؤكد أن القائمين على هذه المواقع يتبعون سياسة قائمة على المماطلة وخدمة مصالحهم دون مراعاة الدقة والأمانة.
كل أسبوعين يجتمع فريق من مديري موقع فيسبوك ليحددوا ما هي الصور ومقاطع الفيديو والمقالات والتعليقات التي يجب منع نشرها، وما هي المواد التي يسمح بنشرها بلا قيود، وتلك التي يتم فرض قيود عليها بحيث تحجب عن مناطق محددة. وسرعان ما تترجم القرارات التحريرية التي يتخذها كبار المديرين إلى تعليمات وإجراءات يقوم بتنفيذها فريق “مراجعي المحتوى” في الشركة العملاقة، وتحدد ما يقرأه ويشاهده نحو 2.2 مليار فرد من زوار الموقع كل شهر في مختلف بقاع الأرض.
وبشكل مشابه، يقوم فريق من مديري موقع يوتيوب الشهير بالاجتماع كل أسبوع لاتخاذ قرارات حول مقاطع الفيديو التي يجب حذفها، وتلك التي يجب السماح بها. وتؤثر هذه القرارات بدورها على نحو 1.9 مليار مستخدم لموقع يوتيوب شهريا. ونظرا لأن شركة “ألفابيت” التي تمتلك موقع يوتيوب تمتلك أيضا موقع غوغل الشهير، فإن هناك تناغما في الأداء بين يوتيوب وغوغل، بحيث أن القرارات التي يتخذها مديرو يوتيوب تنعكس على ما يمكن أن تتابعه أو تجده على غوغل. وهذا كله يعني بوضوح أن الشركتين المالكتين لفيبسوك ويوتيوب تمارسان دورا رقابيا يتجاوز الحكومات والدول والتجمعات الإقليمية بصورة ربما لم تعرفها البشرية على هذا النطاق الواسع من قبل.
ولا تقتصر المواد التي يتم حجبها على موقعي فيسبوك ويوتيوب على تلك التي تمثل انتهاكا للقانون الأميركي، الذي تخضع له الشركتان، مثل الاستغلال الجنسي للأطفال أو الترويج للمخدرات أو المساعدة على الاتجار بالبشر، وغيرها من المواد التي لا يختلف أحد على ضرورة منعها. يتجاوز الأمر المواد التي يعد بثها مخالفة صريحة للقانون إلى مساحات أوسع من الخلافات السياسية والدينية والاجتماعية بحيث يعد حجب مواد معينة أو أفراد بعينهم هو انحياز لوجهة نظر سياسية أو دينية على حساب أخرى.
وعلى سبيل المثال، دار جدل واسع حول صورة تم تداولها للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتظهره خلال التسعينات وهو يرتدي زي جماعة “كوكلوكس كلان” العنصرية التي اشتهرت باستهداف الأميركيين الأفارقة. وطالب البعض بحذف الصورة لأنها مسيئة لترامب.
ولكن شركة فيسبوك قررت السماح بتداولها على نطاق محدود، والإشارة إلى أنها صورة غير صحيحة، وهو ما اعتبره البعض موقفا عدائيا من قبل الشركة تجاه ترامب، كما يروج هو نفسه باستمرار، وكما يردد أنصاره عادة أن فيسبوك ويوتيوب وتويتر تعادي سياسات وتوجهات المحافظين. وبلغ الأمر تهديد ترامب، عبر تويتر، بأنه سيقوم بتنظيم هذه المواقع بشكل مختلف بهدف تشديد القيود عليها.
لا بد من إعادة تنظيم ما يبث على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل يشبه وكالات الأنباء
مثال آخر أثار ضجة واسعة في الإعلام الأميركي، وهو قرار كل من فيسبوك ويوتيوب حذف كل ما يبثه أليكس جونز، وهو مقدم برامج في ولاية تكساس الأميركية وأحد أشهر مروجي نظريات المؤامرة في الولايات المتحدة، وذلك بعد اتهامات أهالي ضحايا عدة هجمات دامية في المدارس الأميركية لجونز بتبرير القتل وتشجيع أتباعه على إيذائهم. وكان قرار حجب كل ما يبثه جونز هو ضربة قوية لنفوذه الإعلامي والسياسي نظرا لكثرة متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي. واعتبر قطاع من اليمين الأميركي المتشدد الذي يؤيد جونز، القرار انحيازا صارخا من قبل فيسبوك ويوتيوب ضد كل من يحاول الترويج لأفكار لا تروق للمسؤولين عن الشركتين.
هذا علاوة على التحقيق الواسع الذي يقوم به المحقق الأميركي المستقل روبرت مولر في تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، وهو ما أسفر عن توجيه الاتهام إلى 13 روسيا وثلاث هيئات بمحاولة التأثير على نتائج الانتخابات. وشمل التحقيق استدعاء ثاني أكبر مسؤولي فيسبوك، وهي شيريل ساندبيرغ، لكي تدلي بأقوالها في كيفية استغلال الموقع للتأثير على مواقف الناخبين.
الموقف من الأخبار الملفقة
ولعل موقف فيسبوك من الأخبار الملفقة أو الكاذبة يمثل مشكلة كبيرة لم يتم حسمها حتى الآن. إذ تقوم سياسة فيسبوك على عدم حذف أي أخبار أو تعليقات لمجرد أنها ملفقة أو مختلقة أو غير صحيحة. وكما أوضحت مونيكا بيكرت، مديرة سياسات المحتوى ومكافحة الإرهاب في فيسبوك في لقاء مع مجلة الإيكونوميست “إننا لا نحذف أي محتوى لمجرد أنه كاذب. بدلا من ذلك نقوم بتخفيض أعداد من يمكنهم الاطلاع على المعلومات الكاذبة، ونشر المعلومات الصحيحة بجوارها”.
وهذا يعني ببساطة أن فيسبوك ترفض التعامل مع أصل المشكلة، وهو وجود أخبار كاذبة ومختلقة، وتحاول الحد من نتائجها السلبية. ويعني هذا بالتبعية أنه لا يمكن أن يثق زوار فيسبوك بأي أخبار ينشرها الموقع لأنها قد تكون غير صحيحة، ولكنهم من بين قطاع من الزوار وصلت إليه هذه الأخبار، حتى لو كان هذا القطاع صغيرا نسبيا.
ولعل هذا يثير تساؤلات كثيرة عن سبب رفض فيسبوك التعامل مع الأخبار والتقارير بصورة احترافية مثل وكالات الأنباء أو الصحف المحترمة التي ترفض بث أي تقارير إخبارية ملفقة أو مختلقة، وعن رفض فيسبوك حجب أو منع الكثير من التعليقات والمقالات التي تقوم على خطاب الكراهية الدينية والعرقية والتحريض ضد المهاجرين أو اللاجئين بحجة الحرص على حرية التعبير. اللافت أن موقف فيسبوك مخالف لمواقف الكثير من الصحف وشبكات الإذاعة والتلفزيون التي ترفض بث مثل هذه المواد نظرا لأن التحريض على العنصرية والعنف يخالف القانون ولا يدخل في إطار حرية التعبير.
تحقيق مكاسب هائلة

السبب باختصار هو الحرص على المكاسب المالية التي يحققها النموذج التجاري الذي تتبناه كل من شركتي فيسبوك ويوتيوب. إذ يقوم هذا النموذج على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الزوار والمستخدمين بهدف تسويق هذه القاعدة الهائلة من المستهلكين إلى المعلنين في مختلف القطاعات، هذا علاوة على قدرة الشركتين على تقديم معلومات تفصيلية عن أي منطقة ترغب الشركات والمؤسسات في تسويق منتجاتها بها. ومن ثم، كلما اتسعت قاعدة المستخدمين، كلما تمكنت الشركتان من تحقيق الأرباح من خلال الإعلانات.
وعلى هذا الأساس تمنح الشركتان أفضلية خاصة للمواد التي تثير اهتمام المتابعين، وتحقق قدرا أكبر من التفاعل عن طريق التعليق والمشاركة من قبل الزوار. ونظرا لأن الأخبار الملفقة تتناول عادة موضوعات تهم المتابعين، ونظرا لأن المقالات والتعليقات التي تتناول قضايا عنصرية ودينية شائكة تحظى عادة بالكثير من التعليقات والمشاركات، فإن شركتي فيبسوك ويوتيوب تحرصان على استمرارها وعدم منعها.
ويبقى جانب آخر من المشكلة، وهو الجانب القانوني، إذ أن القانون الأميركي الذي صدر عام 1996 لتنظيم عمل مواقع التواصل ينظر إلى هذه المواقع على أنها مجرد وسيط يقوم الآخرون بنشر تعليقاتهم وكتاباتهم وصورهم عليها، وبالتالي لا تتحمل هذه المواقع مسؤولية قانونية عما ينشر عليها. وكان هذا الوضع القانوني بهدف حماية هذه الشركات الناشئة في ذلك الوقت وتشجيع القائمين عليها على العمل والتوسع بما يخدم الاقتصاد الأميركي، في الوقت الذي كان المحتوى الذي يبث من خلالها محدودا نسبيا، وبالتالي قدم القانون حماية قانونية مقبولة لهذه الشركات وقت صدوره.
اليوم تبدو الصورة مختلفة تماما. الملايين من البشر يتابعون في مختلف بلاد العالم ما يبث على فيسبوك وتويتر ويوتيوب. أصبح لهذه المواقع دورا مؤثرا في الانتخابات العامة كما حدث في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016 وفي انتخابات البرلمان الألماني “البوندستاغ” حين فاز حزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوي بثالث أكبر عدد من المقاعد اعتمادا على الكثير من الأخبار الملفقة والمضللة عن سيطرة المهاجرين على مناطق بعينها، أو اعتداء شباب من المهاجرين على فتيات ألمانيات.
كما أن قرار فيسبوك ويوتيوب حجب المواد التي يبثها حزب بعينه أو سياسي بعينه يؤثر كثيرا على قدرته على التواصل مع متابعيه، وتشكيل مواقفهم وتوجهاتهم خاصة إذا كانت هناك انتخابات عامة، وهذا يعني أن الدور الرقابي الذي تمارسه مواقع التواصل الاجتماعي له نتائج سياسية واجتماعية واسعة.
كل هذا يعني أنه لا بد من إعادة تنظيم ما يبث على هذه المواقع بشكل يشبه وكالات الأنباء، بحيث تكون القواعد التي يتم على أساسها منع أو بث أي أخبار واضحة للجميع، وبحيث تتحمل مواقع التواصل الاجتماع مسؤولية مباشرة عما ينشر فيها. ربما كان ترامب محقا عندما توعد هذه المواقع بإعادة تنظيمها وتشديد الرقابة عليها، لكن الطريف أنه لجأ إلى واحد منها، وهو تويتر، في هذا التهديد لأنه ربما يعرف مدى قوته وسعة انتشاره.