ينحتون من الجبال بيوتا

حار الإخباريون والبلدانيون والمؤرخون الأقدمون بشأن آثار الحِجر، أو مدائن صالح بالعُلا شمال الحجاز، وقد مروا عليها وهم في طريقهم إلى الحجيج، فعليها تمرُّ القوافل القادمة مِن شمال الجزيرة العربية، وبعدها تأتي تبوك بأربعمئة كيلو متر تقريباً، ومنها إلى الأردن فالشَّام، وهم لم يزيدوا على ما جاء في القرآن بشأنها.
الاثنين 2015/07/27
99 عدد آيات "الحجر" في القرآن الكريم، ليس فيها ما يخص المنطقة سوى أربع آيات

ما نراه الآن مِن تفاصيل فيها: نحت البيوت في الجبال، وحفر القبور في الصُّخور، مع بيوت أنيقة النَّحت والشَّكل، تعلوها رموز دينية وربَّما فنية لا أكثر، فلا نستكثر على مَن حوّل تلك الصُّخور إلى خزانات مياه ومعابد البراعة الفنية، ونحن نرى ما فعلته عوامل التَّعرية فيها مِن تحف فنية، وأنت تُقلّب ناظرك بينها تشعر أنها أكاديمية نحت كبرى. تود لو صارت لك مسكناً ومشغلاً.

وسط هدوئها وعجائب المخلوقات الصخرية فيها تدفعك إلى الفن دفعاً، أو تجد نفسك تتجول داخل مُتحف عالمي، محوط بحراسة مشددة، مع منع اللمس والتَّصوير خشية مِن التأثير فيها، لكنه مُتحف مفتوح في العراء، تخترقه الرِّيح التي تشعرك بالفراغ والوحشة مِن أُمم أقامت هنا مئات السنين، ولم يبق منها سوى هذه المنحوتات، وعمرت المكان بمعول وأزميل ورمل لا أكثر، فمازال الماء موجوداً توجد الحياة، تحيا بين جبالها بساتين النِّخيل المتفرقة، أينما وجدت بطحاء يجتمع فيها ماء المطر تتحول إلى واحة خضراء، ولقيمة الجمال والنُّوق في حياتها جاءت معجزة النَّبي المبعوث إليهم صخرة مِن صخورها الصّلدة، يأتيها المخاض وتتألم كآلام المرأة، فتلد ناقة الله، ومِن صخرة أخرى يخرج سقبها أو فصيلها، كي تدر حليباً سائغاً للشاربين. قيل إنها أرض مدائن صالح، وقيل أرض ثمود، ومازال البحث قائماً في الكتابات المدونة على صخورها.

كلما وقعت عيني على كتاب أو صورة عن مدائن صالح، وطراز عمرانها المثيل لطراز البتراء، يأخذني الشَّوق إلى زيارتها، فالرؤية غير القراءة، وما تراه العين غير ما تسمعه الأذن. مِن مدينة جدة إلى العُلا، حيث المدائن، أكثر مِن سبعمئة كيلو متر، تستغرق نحو ثماني ساعات أو عشر في السِّيارة، لهذا أتت النَّصيحة أن أذهب إلى أقرب مطار عليها، فرفضت الفكرة، لسبب أن مشاهد الطَّريق تهيئك إلى المكان، وتملأ عينك بما لم تره مِن قبل، وهل دونت كتب الرِّحلات عبر السفر بالطائرات أم على ظهور الجمال ثم السِّيارات أو القطارات، ومع أنها مغامرة، مع شدة الحرِّ، إلا أن الطّريق وإن كان صحراوياً في أغلب مسافاته، فإن قارئ التَّاريخ الإسلامي والأيام والسَّنوات الأولى مِن الدَّعوة المحمدية، سيتعرف على أماكن ملأت صفحات التّاريخ، والبداية يأتي التَّفكير بالهجرة إلى الحبشة، عبر بحر القلزم (الأحمر)، مِن أي ساحل كانت؟ وفقط تعرف قُرب المسافة بين مكة وجدة تؤكد أنها تمت من ساحلها، فساحل ينبع يبعد أضعاف المسافة، لكن مِن الصعب أن تجد علامة الإبحار، فالاهتمام بالأثر هناك ما زال ضعيفاً، خشية أن يحوّل النَّاس البسطاء المكان إلى مقامات مقدسة.

طراز البناء متكرر بمملكة الأنباط على أنها كانت مملكة ديدان ولحيان، ولا نعلم صلتها بثمود غير ما ورد في القرآن

البداية من جدة

تبلغ المسافة بين جدة والمدينة، وهي نصف الطَّريق إلى العُلا، أكثر من أربعمائة كيلو متر. كان الانطلاق في اليوم الثَّاني مِن يونيو 2015 المصادف يوم الاثنين، والاتجاه شمالاً. كنت أراقب أسماء الطرقات داخل مدينة جدة، فلمحت أسماء شوارع: الشُّعراء، دار السَّلام، أحمد الغزاوي، العدل، الحمراء، التَّواضع، وفلسطين. قيل لي إن اسم الأخير وضع العام 1973 بعد حرب أكتوبر، وكانت هناك القنصلية الأميركية، وستضطر لذكر الاسم في مراسلاتها، على أنه جاء بتوجيه مِن الملك فيصل بن عبدالعزيز (قُتل 1975).

وجدت جدة مدينة مختلفة، لبعدها عن نجد وقربها مِن البحر، حتى قيل إنه في السبعينات، مِن القرن الماضي، كانت فيها دار سينما، والنِّساء أكثر حرية في الملبس، مع أن مقاهيها الليلية ليست خالية مِن النِّساء، وبعد أن تعرف المدن الأُخرى، مثل العاصمة الرِّياض، تجد جدة مختلفة، وناسها أيضاً مختلفون، مع تداخل اللهجات فيها بين الحجازية والنَّجدية، والأخيرة أقرب إلينا، أقصد نحن أهل العراق.

لا أريد الاستطراد طويلاً عند جدة، فالغاية منطقة الحِجر الأثرية أو مدائن صالح، بعد المرور بالمدينة والنُّزول فيها، وكان هناك طريقان: المختصر بمئة كيلو متر وهذا لا يمر على خيبر، وأنا يصعب عليَّ أن أصل إلى هذا المكان ولا أمر بخيبر، وحصنها المعروف باسمها، وكم شغلت التَّاريخ بأن امرأة منها سممت النَّبي وصاحبه عند استضافتهما بكتف شاة، وأن صفية بنت حيي التي صارت أم المؤمنين بعد غزوة خيبر، وكانت ومازالت شهرتها الزِّراعة وبساتين النَّخيل، وهذه واحدة مِن أهميتها بالنسبة إلى أهلها اليهود والمسلمين القادمين إليها مِن المدينة، لهذا اتفقنا أن الرَّواح سيكون عبر خيبر، وهي على مسافة بعيدة عن المدينة، وكنت مِن خلال القراءة أتخيلها في أطرافها، مثل تخيّلنا لموقعة بدر ومنطقة الربذة، كلها مناطق تتشابك أسماؤها مع المدينة، لكنها مناطق قصية عنها، قصية بوسائل مواصلاتنا الآلية الآن، فكيف الحال مع مواصلات تلك الأيام، ركوباً على الجمال أو سيراً على الأقدام؟

كتابات منقوشة بخطوط مختلفة أحدثها ما جاء في خط المسند الأقرب إلى اللغة العربية

متحف مفتوح

قبل الدُّخول إلى العُلا بمسافة، ليست بالقصيرة، تمرّ بمزارع النَّخيل وهي جنات مِن الظلال، وتكاد تكون متواصلة الخط على جانبي الطَّريق، ولا تقطعها إلا التلال وبعض الجبال غير المتصلة، وقرى متناثرة حولها، والطَّريق باتجاه الشِّمال حيث العُلا وحائل وتبوك. تجد العُلا مدينة عصرية، ذات طرقات معبدة واسعة، ومحلات أنيقة، وتتخللها الحدائق الجميلة، مع عناية بالمدينة الأثرية مِن قبل السِّياحة والآثار، مع وجود مُتحف تعرض فيه القليل مِن اللقى نسبة بعظمة الحِجر، غير أن أعظم آثارها غير منقولة، ثابتة ثبات الجبال فهي منحوتة فيها.

عندما تقف أمام الغرف المنحوتة داخل الجبال، وهي فارغة الآن إلا مِن صوت الرِّيح، تحضرك الآيات القرآنية “وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ(80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ(83)”. جاءت في القرآن السورة باسم “الحِجر”، ومَن لا يرى المسمى لا يظنها مكاناً مِن الأمكنة، وبهذا القِدم، الذي يؤرخ له قبل الميلاد بكثير، فربَّما راح إلى المعنى فقط. يبلغ عدد آيات “الحِجر” تسعا وتسعين آية، ليس فيها ما يخص المنطقة سوى الآيات المذكورات أعلاه، وبطبيعة الحال فأسماء الآيات ليست وقفاً إنما حصلت اصطلاحاً، أي وضعت مِن قِبل الراسخين في علمه أو الجامعين له.

يقول ابن بطوطة، إنه مر بها على طريق الحج من تبوك وهي كثيرة الماء، ويعني الأحواض أو الخزانات المنحوتة وسط الجبال

مساحة عدة كيلومترات مربعة تتداخل فيها الجبال، المقطعة بالوديان الملتوية حول سفوحها، بوابات نحتها فنانون ضاهت عوامل التَّعرية، مِن أمطار ورياح وشمس، بفتحها لتلك الصخور، مئات مِن البوابات، تعلوها تماثيل الصقور أو العقبان، ووردات اللوتس الخمس، تقف على عارضة مِن الحجر منحوتة من الجبل أيضاً، وإلى الأعلى درجان متقابلان، عدد درجات كلُّ منها خمس درجات. قيل لي إنها رمز الصُّعود إلى الجنة، بالفعل فرقم الخمسة، على ما يبدو، له شأن، فقد دققت في البوابات جميعاً، فلم أجد غير هذا العدد.

ارتبطت المنطقة برسالة سماوية، حسب ما ورد في القرآن في أكثر مِن آية، فمِن غير “الحِجر” جاء في سورة “الشُّعراء”: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)”، و”فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ”(149)، وفارهون بمعنى كانوا ميسورين بهذا البناء العظيم. وجنات وعيون وزروع نخيل هو ما تراه الآن قائماً. تخيلهم فارهين فيما اصطلح عليه، في ما بعد، بقصور البنت وقصر الصانع، في جهة ما عُرف بالخيريبة تجد حوضاً كبيراً بين الجبال المنحوتة كأنه لخزن ماء أو طعام، أو سور يحيط ببئر مِن الماء، قالوا: هذا “محلب النَّاقة”، إنها تسمية حديثة أيضاً، ولو أنها ناقة إلهية لا بد أن يكون إناء حلبها عظيما بعظمتها، وأنت تقف على المحلب تستذكر ما ورد في القرآن عن النَّاقة المقدسة، فقد جاء في سورة “الشَّمس”: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا(12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا(15).

تجتمع عديد الرموز للحضارات المتعاقبة على منطقة مدائن صالح

على أنك لم تكن بعيداً مِن جبل اسمه جبل الحوار ابن النَّاقة المقصودة، وتأتي القصة عند المسعودي، وبسعة خيال مِن قبل الإخباريين أو القصاصين على ما ورد في القرآن، مِن نص فيها، ولا أخفي ما شعرتُ به وأنا أقلّب ناظري وسط ذلك العمران، وكم يُطلق الخيال إلى ما هو أكثر مما قيل في هذه الجبال. نقرأ عند أبي الحسن المسعودي (ت 346هـ) ما خلاصته: إن ديار ثمود بمكان يُعرف بفج النَّاقة، وإن بيوتهم إلى وقتنا هذا (القرن 10 الميلادي/ 4 الهجري) منحوتةٌ في الجبال ورسومهم باقية وآثارهم بادية، على طريق الحاج مِن الشَّام إلى مكة، للبيوت المنحوتة في الصَّخر أبواب صغار، ومساكنهم على قدر مساكن أهل عصرنا (عصر المسعودي)، معنى ذلك أن أجسامهم كانت كأجسامنا، وليس مثلما يُقال عنهم أنهم كأجسام قوم عاد طوال، ولما لم يصدّقوا صالحاً وطلبوا برهاناً منه أن يُظهر مِن الصخرة ناقةً، ولتكن سوداء عشراء نتوجاً حالكة صُهابية، فتمخضت الصخرة وخرجت منها النَّاقة، ثم تلاها مِن الصَّخرة سقب، وطلبا الماء والكلا، لكن القوم ضاقوا بها فعقروها وعقروا سقبها، فأمهلهم الله ثلاثة أيام، ولما هموا بقتل صالح نزل عليهم العذاب (المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: شارل بلا، بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية 1966 ج 3 ص 158-159). إن ملاحظة المسعودي مهمة، فقد زرتُ قبر صالح النَّبي بجبال ظفار، وكان طوله أسطوري، فمعنى هذا أن صالح مِن أهل الحِجر.

جاء الربط بين ثمود وصالح وناقته والمنطقة في سورة “الأعراف”: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا (74). وجاء ذِكرها أيضاً في سورة “هود”: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا…(65).

كانت النشأة تجارية، حسب المهتمين، فالعلا تقع على الطريق الرابط بين شمال الجزيرة وجنوبها

جاء أجانب عديدون، قُبيل القرن العشرين وبعيده، ولهم الفضل في اكتشاف المكان وأهميته، لكن الأهالي لم يدركوا أهمية ما يفعلون ويصوّرون، ويحلّون مِن رموز، فطاردوهم ككفار أو سحرة أو سُراق، لكن اسم المنطقة ذاع بين المهمين في الآثار عالمياً، وجرت تنقيبات، وعثر على كتابات منقوشة بخطوط مختلفة، وربما أحدثها ما جاء في خط المسند الأقرب إلى العربية، وبينها الخط الآرامي أيضاً. أغلب الكتابات وصايا ملكية وأسماء قبور وتعامل اقتصادي كالضرائب وبيع وشراء ووكالات.

بعد الانتهاء من الجولة حول محلب النَّاقة، وقفنا أمامنا قبور الأسود، المحفورة في الصخور، والتَّسمية ليست قديمة إنما هناك ما يشبه الأسد منحوتا في الجبل. بعدها ذهبنا لرؤية ما اصطلح عليه بالمكتبة، وكنت أظنها مكتبة فيها أدراج كتب ورفوف وخزانات، وإذا بي أمام أحجار مبعثرة في الفضاء ومسالك وعرة متصلة بالجبل، نقشت عليها النُّقوش، وكل واحدة منها لا تقدر بثمن، إلا أنها محفوظة بمراقبة وإن كانت ما زالت بالعراء.

تداخل مزارع النخيل مع الجبال تشير إلى أنها كانت دار نعمة

ما قاله البلدانيون

لا ندري إذا ما كان الأجانب الأثريون قد سمعوا أو قرأوا ما جاء في كتب البلدانيين عن مدائن صالح، أو الحِجر، كالمذكور سلفاً بقلم المسعودي، ثم ما قاله ياقوت الحموي (ت 626 هـ) عن العُلا “اسم لموضع مِن ناحية وادي القرى، بينها وبين الشَّام، نزله رسول الله (ص) في طريقه إلى تبوك، وبُني مكان مصلاه مسجدٌ” (الحموي، معجم البلدان، بيروت: دار صادر 1995 ج 4 ص 144). ما زال المسجد المذكور موجوداً، ووقفت عليه، لكن البناء تجدد مِن جيل إلى جيل، وحسب مذهب الدَّولة السعودية، في البعد عن التبرك بالمساجد والقبور، فلا تجد حول هذا المسجد حشود أو رايات خضر أو صفر أو لطخات من الحنة وغير ذلك، إنما هناك مَن يسعى للصلاة فيها، وهو ضمن المدينة القديمة، التي شيدت في ما بعد، وما زالت سقوفها مرفوعة بجذوع النَّخيل.

يقول ابن بطوطة (ت 779 هـ)، إنه قد مرَّ بها على طريق الحاج مِن تبوك، وهي كثيرة الماء، ويعني الأحواض أو الخزانات المنحوتة وسط الجبال، والينابيع: “ولكنَّ لا يردُها أحدٌ مِن النَّاس مع شدة عطشهم اقتداءً بفعل رسول الله (ص) حين مرَّ بها في غزوة تبوك، أسرع براحلته وأمر أن لا يُسقى منها أحدٌ، ومَن عجن به أطعمه الجِمال، وهناك ديار ثمود في الجبال مِن الصَّخر الأحمر، منحوتةٌ لها عتَب منقوشةٌ يظن رائيها أنها حديثة الصّنعة، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت، إنّ في ذلك عبرة، ومبرك ناقة صالح (ع) بين جبلين هناك، وبينهما أثر مسجد يُصلى فيه، وبين الحِجر والعُلا نصف يوم أو دونه، والعُلا قرية كبيرة حَسنة لها بساتين النَّخل..” (ابن بطوطة، الرِّحلة، بيروت: دار صادر 1998 ص 112).

ديار ثمود في الجبال من الصخر الأحمر، منحوتة لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة

ورد الكثير عن “الحِجر” أو مدائن صالح، والأخير تسمية حديثة، وطراز البناء متكرر بمملكة الأنباط، على أنها كانت مملكة ديدان ولحيان، ولا نعلم عن صلتها بثمود غير ما ورد في القرآن. دارت حكايات كثيرة عن تلك القصور المنحوتة في الجبال، منها علاقة ابنة الملك بالصانع، لربما كان صانع البناء، لكن اسم الجبل المنحوت فيه الباب يسمّى بالصَّانع، وهي قصة حب مثيرة كانت بين الأميرة والصَّانع المذكور، وهناك تجد ما عُرف بالمساكن، لا ندري أهي للملوك أم للشّعب، مع علمنا أنه لا يوجد ملك بلا شعب، وحفور واسعة داخل الجبال قيل إنها تركة المعابد، ومن معبوداتهم إله “ود”، و”شري”. تختلط البيوت بالقبور، وهو ما يشير إلى الإيمان بالعالم الآخر بقوة، ولا نعلم عن صحة ما أورده ابن بطوطة مِن أن في تلك الحفور وجدت عظام الموتى، أما الآن فنجدها نظيفة تماماً.

كانت النَّشأة تجارية، حسب المهتمين وما تُرجم مِن المدونات على الصُّخور والأحجار، فالعُلا تقع على الطَّريق الرَّابط بين شمال الجزيرة وجنوبها، ومِن الجنوب تأتي القوافل مِن اليمن، ومِن غربها تأتي من البحر الممتد على طول الطَّريق، وبالتالي يربط الجزيرة بالشَّام والعراق والروم واليونان شمالاً، قيل إنه طريق البخور، وبعد حين تبدلت القوافل بمحطة سكة حديد، في نهاية العهد العثماني “سكة الحجاز”، الخاصة بالحاج، مازالت قلعة محطة الحِجر قائمة وبئر مائها موجودة خالية، تبعد المحطات عن بعضها بعضاً خمسة وعشرين كيلو مترا حتى تصل إلى مكة، وجرت محاولات لإنعاشها، في سبعينات القرن الماضي مِن جديد لكنها لم تنجح. على أن أهمية العُلا التجارية وفي طريق الحاج، في العصر الإسلامي، عادت مِن جديد قبل نحو 800 عام.

مدائن صالح ببيوتها المنحوتة في الجبال كنز تاريخي يستحق دراسات معمقة

للطبيعة خيال أيضا

تلوح لك أشكال صخور الجبال وألوانها، وسط الصَّحراء، كأن أيدي النَّحاتين انتهت مِن نحتها قبل يوم أو يومين، مع أن عوامل التَّعرية نحتتها قبل عدة قرون مِن الزَّمن، صخور على أشكال أهرام وأُخرى على أشكال بشر وحيوانات، ورسوم مخلوقات عجيبة قد لا تطالها مخيلة الفنان، منها المعلق والمدبب، والممدود جسراً بين جبلين، أو تكون كهفاً معلقاً على شكل بيت، وحفور حفرت بمعاول الإنسان، ولا تدري أيّ آلة تتمكن مِن ثقب الأحجار الصّلدة، وبهذه الدِّقة، وكم قضى فيها الصُّناع مِن وقت، كي تبقها شاخصة كلّ هذا الدّهر الدَّهير، إنها مدينة “الحِجر” المتصلة بمحافظة العُلا، فلا تبعد عن مركزها سوى عدة أميال.

أقول: مَن يمرُّ على تلك القصور والقبور، ويتأمل أشكال الصخور المنحوتة مِن قبل الرياح والأمطار، والشَّاخصة عناداً للدهر، سيؤلف قصصاً بخيال واسع، مِن تمخض الصخر بناقة وسقب أو حوار إلى العذاب الذي نزل على الساكنين في هذا المكان، إلى قصر البنت وقصر العجوز. فمازال ينظر إلى ذلك المكان على أنه مغضوب عليه مِن الله، ولا يجوز الشرب والأكل منه. غير أن وجود مزارع النخيل متداخلة في الجبال، خضراء مثلما وردت أخبارها في التَّاريخ، تقول لك: إنها دار نعمة أيضاً إلى جانب دار عذاب بسبب عقر ناقة الله وسقبها.

كنت أظن أن الساعات الباقية مِن نهار (2 يونيو) كافية لرؤية آثار الناحتين بيوتهم في الجبال، إلا أن الشَّمس أخذت بالغروب، وأشعتها الحمراء تبدو من فجوات تلك الأشكال الصَّخرية الغريبة في أعالي الجبال، فقررت المبيت في فندقها الوحيد “آرك”، وقد شُيد في فسحة بين الجبال، ثم انقضى يوم كامل فيها، ولأثر تاريخها وفنونها في النفس يودّ الذاهب العودة إليها، قيل على طرازها، إلى الشَّمال، قريباً من تبوك نحوت في الجبال أيضاً، لكن الوقت لم يسعفنا فعدنا أدراجنا كي نلحق رؤية حصن خيبر قبل الظَّلام، وكان لنا هذا.

12