ويلات سعر صرف الجنيه المصري

جاءت خطة الإنقاذ التي وضعها صندوق النقد الدولي في ديسمبر لوقف انهيار قيمة الجنيه المصري لتبعث بعض التطمينات في نفوس المصريين، إلا أن محللين يشددون على أن الخطة لن تحقق الكثير مع ارتفاع الديون الخارجية وتراجع احتياطيات العملة، ولن يتمكن الاقتصاد المصري من الصمود كثيرا حتى وإن ظل يعتمد على الهبات الخليجية المنقذة.
أبوظبي - وافق صندوق النقد الدولي في منتصف ديسمبر الماضي على قرض لمصر بقيمة 3 مليارات دولار، مع صرف 347 مليون دولار مباشرة إلى خزائن النظام.
وذكر البيان الصحافي الصادر عن صندوق النقد الدولي أن مبلغ 14 مليار دولار سيصاحب القرض في شكل تمويل ثنائي من حلفاء النظام المصري الإقليميين والدوليين، وعلى الأرجح حلفاء الرئيس عبدالفتاح السيسي في الخليج.
وتغطي هذه التدفقات الوافدة على ما يبدو فجوة التمويل التي قدرت الحكومة رسميا أنها ستبلغ 16 مليار دولار، رغم وجود تقديرات أخرى تشير إلى ارتفاع إجمالي يصل إلى 45 مليار دولار.
لكن المحلل السياسي ماجد مندور يقول إن هذا لا يعالج إحدى نقاط الضغط الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية المسلّطة على النظام، وهي المبالغة في تقييم الجنيه المصري وما يبدو من مزيد تخفيض قيمة العملة.
ويوضح المحلل في تقرير لمؤسسة عرب دايجست الاستشارية أن بيان صندوق النقد الدولي قد سلّط الضوء على الحاجة إلى الانتقال إلى سعر صرف مرن ستكون آثاره مدمرة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة والقطاع الخاص.
ويتصاعد الضغط على الجنيه بالفعل على الرغم من خفض قيمته مرتين في مارس وأكتوبر 2022، حيث خسر 14 في المئة من قيمته في المرة الأولى، و14.5 في المئة في المرة الثانية.
وفي مقابل هذه الخسارة السريعة للقيمة، ازدهرت سوق سوداء للعملة، حيث يمكن تبادل من 32 إلى 33 جنيها مقابل كل دولار، بينما يُحدد السعر الرسمي 24.5 جنيه مقابل كل دولار. ويجب تصحيح هذه الفجوة لجذب التدفقات الرأسمالية التي تشتد الحاجة إليها، سواء في أدوات الدين المصرية أو الاستثمار المباشر في أصول الدولة.
ويزيد تعقّد الوضع بتراكم الواردات المقدرة بنحو 5 مليارات دولار، حيث لا يمكن تحريرها من الجمارك بسبب نقص المعروض من الدولارات. كما تتضاعف الأزمة بتضاؤل احتياطيات العملات الأجنبية التي انخفضت من 41 مليار دولار في مارس 2022 إلى 33.5 مليار دولار في ديسمبر 2022. ونتجت معظم الاحتياطيات من الودائع الخليجية لدى البنك المركزي المصري التي بلغت 28 مليار دولار في نهاية نوفمبر الماضي.
وبغض النظر عن الهبات الخليجية، يبقى النظام في وضع ضعيف للغاية، حيث لا يتجاوز احتياطي العملة الحقيقي 5.5 مليار دولار.
ويشدد مندور على أن المزيد من التخفيض الحتمي لقيمة الجنيه لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة وإضعاف القطاع الخاص الهش بالفعل، وهي نتائج تظهر أعراضها بالفعل. فمن المتوقع، على سبيل المثال، أن يؤدي انخفاض قيمة الجنيه إلى زيادة معدل التضخم بسبب الهشاشة الاقتصادية والاعتماد الشديد على الواردات الذي تعاني منه مصر. وتتواصل هذه الاتجاهات مع بلوغ التضخم أعلى مستوى له في 5 سنوات، حيث وصل إلى 18.7 في المئة في نوفمبر 2022، مع ارتفاع تكاليف المواد الغذائية والمشروبات بنسبة هائلة بلغت 29.9 في المئة، مما أضرّ بالفقراء أكثر من غيرهم. ويمكننا أن نتوقع آثارا مماثلة مع إمكانية زيادة صفوف الفقراء بملايين أخرى إذا درسنا انخفاض قيمة العملة في 2016، حين شهد الجنيه فقدان نصف قيمته وتراجع 5 ملايين مصري إلى ما دون خط الفقر الوطني.
وليست الزيادة في مستويات الفقر مجرد مصدر قلق إنساني، بل لا تبشر بالخير للقطاع الخاص أيضا، حيث كان أداؤه دون المستوى لسنوات. وصاحب انخفاض قيمة العملة في 2016 انخفاض في الطلب الوطني بنسبة 9.7 في المئة. ومن المتوقع أن يتكرر هذا مع انخفاض آخر لقيمة العملة.
ولن يتوازن الانخفاض في الاستهلاك بتحسن أداء الصادرات
بسبب افتقار القطاع الخاص إلى القدرة التنافسية. وانعكس ذلك في عجز الحساب الجاري الذي استمر توازنه السلبي بين 2016 و2021 رغم انخفاض قيمة الجنيه، الذي كان من المفترض أن يحفّز الصادرات ويقلل الواردات، وفقا للنظرية الاقتصادية التقليدية.
ويقول المحلل الاقتصادي ماجد مندور “مثلما لاحظنا مع التضخم، يبدو التأثير واضحا بالفعل على القطاع الخاص مع قيود الاستيراد وزيادة أسعار المدخلات”.
فقد أظهر مؤشر مديري المشتريات، المستخدم لتقييم أداء القطاع الخاص، تقييمه الأسوأ منذ يونيو 2020، ثم في ذروة جائحة كوفيد – 19.
ومن المتوقع أن تتدهور الأوضاع مع انخفاض آخر لقيمة العملة، مع تقلص متطلبات السوق وارتفاع تكلفة الواردات.
من المتوقع أن تتدهور الأوضاع مع انخفاض آخر لقيمة العملة، مع تقلص متطلبات السوق وارتفاع تكلفة الواردات
وتتفاقم الديناميكية بسبب الزيادة المتوقعة في مستويات البطالة وزيادة ضعف القاعدة الضريبية مما يدفع النظام إلى الاقتراض أكثر. ولن يدفع الانكماش الاقتصادي القطاع الخاص إلى تقليص القوى العاملة فقط، بل سيضعف قدرة النظام على مواصلة فورة إنفاقه على المشاريع الضخمة أيضا، حيث سيكافح لتوفير التمويل اللازم.
وتوظف المشاريع 5 ملايين مدني، حسب بيان صادر عن الجيش في 2019. ومن المرجح أن يؤدي أيّ تقليص في الإنفاق إلى زيادة البطالة وإضعاف الطلب المحلي بشكل أكبر. كما من المرجح أن يزداد الضغط على القطاع الخاص بسبب الارتفاع المتوقع في أسعار الفائدة مع قرار نوفمبر 2022 المستجيب لمطالب صندوق النقد الدولي لخصم برنامج قروض بأسعار فائدة منخفضة للقطاع. وقدم البرنامج قروضا بنسبة 8 في المئة، أي حوالي نصف السعر الرسمي.
ويشير المحلل المصري إلى أن الأزمة الاقتصادية التي سببتها سياسة النظام الاقتصادية المدفوعة بالديون خلقت حلفاء غريبين. ويشعر الفقراء والطبقة الوسطى ونخب رجال الأعمال بضغوط الهيمنة العسكرية على الاقتصاد.
ويقول مندور “لا نستطيع أن نحدد ما إذا سيكون هذا أساسا لتحالف واسع مناهض للنظام. لكن ما نستطيع تأكيده هو أن المشاكل الاقتصادية في مصر ستزداد سوءا وأن قيمة الجنيه ستكون أهم نقطة في الخطاب العام خلال الأشهر القليلة القادمة”.
ويمثل هذا تحديا فريدا للنظام، لأنه لا يستطيع تطبيق خطابه القومي ولا يمكنه استخدام عنف الدولة لقمع حقيقة أن قيمة الجنيه والاقتصاد يتدهوران بشكل واضح. ويصبح شريان الحياة الوحيد هو حلفاء السيسي الخليجيون الذين يبدون أقل استعدادا لتقديم مساعدة غير مشروطة لنظام يبدو أنه يمثل عبئا ماليا لا نهاية له.
وهذا ما يثير سؤالا آخر مهما: إلى متى سيمكن للرئيس السيسي الاعتماد على هبات الخليج لإنقاذه عندما يتعثر؟