وظيفة الأدب ليست الدخول من الأبواب المفتوحة

عمر صوفي: تؤرقني فكرة التعصب والانعزال والشوفينية الضيقة في عالم مفتوح.
الاثنين 2021/11/15
الرواية ليست صورة فوتوغرافية من الواقع

يقدم الباحث والأديب عمر صوفي محمد، الذي فازت روايته للفتيان “حكاية طائر وحيد” أخيرا بجائزة كتارا فئة رواية الفتيان، تجربة إبداعية مهمة في الكتابة للطفل وأيضا الكتابة للمسرح، وهي تتشكل من نسيج تتميز خيوطه بفنية الرؤية والفكرة والمعالجة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتب لإلقاء الضوء على تجربته الإبداعية انطلاقا من روايته الفائزة ولنتعرف على رؤاه وأفكاره.

علاوة على كتابته للفتيان قدم عمر صوفي محمد العديد من المسرحيات مثل “الفلاح الفصيح”، “حمام فرعون”، “الطباشير الأسود”، “العضاض”، “الحمل الكاذب”، “همس العصافير”، وقد فازت الأخيرة بجائزة دبي الثقافية فرع التأليف المسرحي، وفي مجال الكتابة للطفل قدم عددا من المجموعات والروايات منها “كُلنا طيور”، “فستان زينة”، “نوار القطن”، “بانجي بانجي”، وأخيرا روايته الفائزة بجائزة كتارا “حكاية طائر وحيد”.

وساهم تخصصه الأكاديمي والنقدي في بلورة رؤاه وكتاباته للفتيان، فهو حاصل على الدكتوراه في أصول التربية، كما نُشرت له العديد من الكتب في مجال التربية مثل “أدب نجيب محفوظ.. رؤية تربوية” و”الفكر التربوي عند نبوية موسى”.

وبداية يشير صوفي إلى أن روايته الموجهة للفتيان “حكاية طائر وحيد”، تدور أحداثها في الفيوم في بيئة خلابة ببحيرة قارون ومحيطها مثل قرية تونس ووادي الريان وقرى الفيوم وبساتينها، وفكرتها الرئيسية تتمثل في طائر فلامنجو مهاجر تخلّف عن العودة إلى موطنه في بلاد الشمال في نهاية فصل الشتاء، ليظل طوال الصيف وحيدا، يواجه أحداثا وشخصيات مثيرة. فأدرك رحابة الحياة ووجوهها المتعددة، وكان وجوده دافعا لأن يبني تصورا جديدا عن الحياة، وامتد تأثيره لمن حوله من مخلوقات وكائنات.

له العديد من الكتب في مجال التربية

فتح الأبواب المغلقة

يكشف الكاتب أنه حاول في عمله هذا الاستفادة من تقنيات الرواية الجديدة وتوظيفها، والتي تعتمد على كسر القوالب السردية النمطية، ودمج أساليب متنوعة ومتداخلة برؤى جديدة بما يخلق حالة من سمو الفن على الواقع، دون أن يتبرأ منه.

 وتوظف الرواية أنماطا سردية متعددة، ويتداخل فيها تيار الوعي بالراوي العليم بضمير المتكلم، ما يخالق حالة دائمة من التوقع وكسر الرتابة السردية، علاوة على توظيفها الوصف بشكل جمالي مكثف، ورغم حبكتها الرئيسية، فإنها تتشعب لتحتوي حبكات فرعية تثري العمل وتخلق مسارات موازية للتطلع. فهناك وحدة للحدث، وهو الفلامنجو المهاجر الوحيد الذي تخلف عن العودة إلى بلاد الشمال، مع توظيف حبكات فرعية، مثل مشكلة مريم ووالدها الصياد وإخوتها، وهي تلقي أضواء كاشفة على الحدث الرئيسي وتبرزه.

وتركز الرواية على السرد ولا تلجأ إلويلقي صوفي الضوء على مراحل تكوينه كاتبا، يقول “نشأت في بيئة ريفية بسيطة في محافظة الفيوم، فتشبعت بمفردات هذه البيئة ومشاكلها وجمالياتها، إلا أنها كانت شبه منعزلة ثقافيا عن العالم، اللهم إلا من روافد شحيحة تمثلت في التعليم باهتماماته الثقافية المحدودة وانصبابه على المناهج والكتب الدراسية، بينما تهمّش مصادر المعرفة والتعلم الأخرى. وبالطبع لم تكن تتوافر بالقرية مكتبات ولا مجلات ولا غيرها، لكن كان ميلي إلى عالم الأدب والقص يتجلى في التهامي للقصة المقررة كلها في نفس يوم تسلم كتب المدرسة”.

ويضيف “بدأت اهتماماتي تتسع مع التحاقي بقسم التاريخ في الجامعة، فأخذت أتابع الصحف والمجلات وبعض سلاسل الكتب كعالم المعرفة الكويتية والمسرح العالمي ثم إصدارات مكتبة الأسرة. وساهم استمراري في الدراسات العليا حتى الحصول على الدكتوراه في ترسيخ النزعة الأدبية لديّ، خاصة أن الماجستير كان عن نبوية موسى والتي كان لها اهتمامات أدبية في الشعر والرواية، علاوة على تناولي في الدكتوراه لأدب نجيب محفوظ من منظور تربوي، وهو ما جعلني أبحر في عالم القص والنقد، وأؤمن بالدور الاجتماعي للأدب إلى جانب قيمته الجمالية. ولا شك أن للمنتديات الثقافية والأدبية دورا كبيرا في تعزيز توجهي الأدبي، خاصة مع وجود بعض الأدباء البارزين في الفيوم”.

الرواية شكل من أشكال الوعي بالواقع، والعلاقة بينهما جدلية، وفي ظل وجود سيوف مسلطة دائما على الكاتب

ويرى صوفي أنه لا يمكن لأيّ عمل أدبي ينشد البقاء أن يتنكر لقضايا مجتمعه وإشكالياته المثارة، فكما يقول إرنست فيشر، فإن وظيفة الأدب ليست الدخول من الأبواب المفتوحة بل فتح الأبواب المغلقة، وهذا يعني أن يشتبك الأدب بالواقع، دون أن يتخلى عن جمالياته التي تمنحه صفة الأدبية، فلا يتحول إلى مانيفستو زاعق بشعارات ومواعظ، وحتى الأعمال التي تدعو إلى فكرة الفن للفن وخلخلة الأنماط السائدة وتتنكر لأيّ أيديولوجيا، فإنها في الواقع تغرق في الأيديولوجيا وتحفز المجتمع على تقبل فكرة التغيير والتطوير.

ويتابع الكاتب “أسعى لأن يكون كل ما أكتبه مرتبطا بقضايا واقعنا المجتمعي. ولعل من أهم القضايا التي تؤرقني فكرة العدالة الاجتماعية والتي ناقشتها في أول عمل نشرته، وهي مسرحية ‘الفلاح الفصيح‘، والتي تعتمد على شكاوى الفلاح الفصيح في عصر الاضمحلال الأول من تاريخ مصر القديمة. كما تؤرقني فكرة الحرية وتقديس الحاكم وتأليهه، بما يجعله فوق كل قانون ومحاسبة أو مطالبة بالتغيير وهو ما ناقشته في مسرحية حمام فرعون”.

إرساء فكرة التعايش وقبول الآخر

كما ناقش صوفي قضية الإرهاب، خاصة انعكاساتها في مجال التعليم في مسرحية “الطباشير الأسود”. كذلك صراعات جماعات المصالح وتكالبهم على نهب خيرات المجتمع وفرض نفوذهم وهيمنتهم دون رؤية للتطوير، ووأد أي نزعة دافعة لنهوض الفئات المطحونة في مسرحيتيْ “العضاض” و”الحمل الكاذب”. كما تؤرقه فكرة التعصب والانعزال والشوفينية الضيقة في عالم مفتوح، وأسعى لغرس فكرة التعايش والتفاهم وقبول الآخر والبناء على المشترك الإنساني، كما هو في كتبي للأطفال مثل “فستان زينة”، “كلنا طيور”، “نوار القطن”، “حكاية طائر وحيد”، “بانجي بانجي”.

الوعي بالواقع

يلفت الكاتب إلى أنه حاول من خلال البحث الأكاديمي أن يتناول القضايا التي تؤرق المجتمع، وفي ذات الوقت الأقرب إلى ميوله واهتماماته الفكرية. ولعل من أهم الإشكاليات المجتمعية قضية المرأة وهو ما تناوله في دراسته للماجستير عن نبوية موسى ودورها التربوي باعتبارها إحدى أبرز رائدات الحركة النسائية في النصف الأول من القرن العشرين، وتبنت مشروعا تربويا وثقافيا وأدبيا ثريا.

 وفي الدكتوراه تناول المضامين التربوية في أدب نجيب محفوظ، وهي زاوية لم تتطرق إليها معظم الدراسات عن نجيب محفوظ رغم كثرتها ورغم ثراء كتاباته بهذه المضامين. كما يسعى من خلال ما يكتبه من دراسات ومقالات نقدية لتأصيل البعد الثقافي الاجتماعي للأدب.

ويتابع صوفي أن أبرز ما قدم فيه العديد من الدراسات منها كتاب عن “الفكر التربوي عند نبوية موسى”، وكتاب عن “أدب نجيب محفوظ.. من منظور تربوي”، وكتاب نقدي سيصدر قريبا عن “الحركة الأدبية في الفيوم”، علاوة على المشاركة في العشرات من الندوات والمؤتمرات الثقافية والأدبية والكتابة في العديد من المجلات والصحف، في سعى لترسيخ الاتجاه التنويري القائم على العقل الناقد المتسائل والمعرفة العلمية الرصينة.

 

العدالة الاجتماعية

ويؤكد أن الرواية ليست صورة فوتوغرافية من الواقع وإنما هي أشبه بالسحاب، تنبع من الواقع، لكنها تحلّق في سماء الخيال، لتخلق نبتا جديدا وحياة أكثر ثراء ونضارة، وهي عامل خلق إزاحي تخلق عالما بديلا قوامه الدهشة والتشويق لدمج المتلقي في عالمها لتمثله والتفاعل معه. وهي سعي دائم لتقويض المألوفات الجمالية والقيمية واللغوية والبنى الاجتماعية وجسر فراغات الحياة عبر الخيال، لتخلق عالما أكثر جمالا ونبلا وتوافقا، والدفع تجاه إنضاج الأفكار والقيم وتمثلها في الوجدان الفردي والجمعي.

ويضيف “في ذات الوقت إن مجتمعاتنا هي مجتمعات مأزومة تعاني إشكاليات متراكمة وهوة حضارية كبيرة، فهناك تحولات قيمية لاهثة، وتنام للنزعة الفردية وحالة من التشظي الاجتماعي تصل أحيانا حد التفسخ، وتنافس براجماتي لا يرحم، وعنف مادي ورمزي، وهي قضايا لا يمكن للرواية الجادة أن تتملص منها”.

الرواية، في رأيه، شكل من أشكال الوعي بالواقع، والعلاقة بينهما جدلية، وفي ظل وجود سيوف مسلطة دائما على الكاتب، سياسية ودينية واجتماعية وغيرها، فمن الطبيعي أن يجد المبدع في عالم الرواية متنفسا لفتح مسام العقل الجمعي على العالم الواسع، والدعوة للتغيير وتقبل المختلف، دون أن يصبح ضحية للتسلط. لكن هذا لا يعني، كما يقول، أن تتحول الرواية إلى مناحة اجتماعية، بل يجب أن تتجاوز الرؤية التنفيسية التطهيرية التقليدية إلى البناء التنويري.

ويرى صوفي أن عملية الترحال الأدبي بين الأصناف الأدبية هي عملية مألوفة وجمع كثير من الأدباء بين الكتابة في أكثر من نوع أدبي، إلا أن الكفة تميل في اتجاه الترحال نحو عالم الرواية، حتى وصف عصرنا الأدبي بزمن الرواية. وهذا يرجع إلى العديد من العوامل منها أن الرواية عالم شديد التعقيد متناهى التركيب متداخل الأصول، تتجسد فيها ملامح الجمال الفني مع الحس الراقي وجدة الإبداع وثرائه، وهي تستوعب في كنفها الأصناف الأدبية كافة، فهي تغترف من عالم الأسطورة والملحمة والشعر والمسرحية، دون أن يفقد ذلك الرواية تفردها وسماتها اللصيقة.

علاوة على ذلك الرواية، كما يقول، تجد سوق نشر رائج نسبيا مقارنة بالأنواع الأدبية الأخرى، مع فرصة تحويلها إلى عمل درامي يجلب للكاتب انتشارا وعائدا. ولعل ما نتج عن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من تشظ للمعرفة والفكر والإبداع، قد أتى بردة فعل عكسية في بحث القارئ عن عالم متكامل، يجد فيه متنفسا لأحلامه وتنفيسا عن رغباته وإشباعا لحاجته المعرفية والروحية إلى بناء جمالي وفكري متكامل الأركان، والرواية تحقق هذا على حد كبير.

13