وصية الجد
هي قصة لاعب مبدع واستثنائي خطّ اسمه بأحرف من ذهب بعد أن نال العديد من التتويجات والألقاب، اعتبره بعض النقاد أفضل لاعب على الإطلاق في مركزه، فأداؤه يتّسم بالهدوء والجنون في الوقت ذاته، إذ لا يمكن توقّع ما يمكن أن يفعله، فهو يصيب الجميع في أغلب الأحيان بالدهشة بفضل فنياته العالية وموهبته الفذة، ولعلّ تلك السّمة هي جعلته حقا أحد أفضل اللاعبين في العالم في الوقت الراهن.
حديثنا يخصّ الظهير الأيسر لريال مدريد وأحد قادة منتخب البرازيل مارسيلو داسيلفا الذي حقّق كل البطولات الممكنة مع فريقه الإسباني، في انتظار تحقيق حلم الطفولة المتمثل في الحصول على كأس العالم.
قصة هذا اللاعب بدأت في سن مبكرة حيث لفت الأنظار بسرعة قياسية وكان أحد أبرز النجوم الواعدين في البرازيل، إذ تألق بشكل لافت رغم أنه لم يكن مهاجما أو صانـع ألعاب، بل إنه يشغل خطة ظهير أيسر، ومع ذلك نجح رغم صغر سنه في التألق مع نادي فلومينيسي وافتك مكانا ضمن الأساسيين وهو لم يبلغ آنذاك سن الثامنة عشرة.
كان من الطبيعي والبديهي أن يلفت هذا الفتى أنظار الكشافين والمولعين بمتابعة اللاعبين البرازيليين، لكن المفاجأة التي لم يكن مارسيلو ينتظرها حصلت، إذ لم يكن يتوقّع أن يأتيه عرض من أحد أعرق وأقوى الفرق في العالم، لقد جاءه خصيصا موفد من ريال مدريد كي يضمّه للفريق الإسباني.
دهش مارسيلو ولم يصدّق ما يحصل له، إذ كان في ذلك الوقت لاعبا صغيرا مازال يجاهد من أجل تثبيت قدميه في عالم الساحرة المستديرة، فإذا به يجد نفسه بين جنبات ملعب “البيرنابيو” الشهير في إسبانيا، ليكون زميلا لنجوم كبار مثل راؤول وكاسياس وغيرهما. تواصلت قصة التحدي والنجاح، فمارسيلو الذي لا يكاد يذكر كيف وقّع عقد انتقاله إلى مدريد بسبب الصدمة التي أصابته، بقي فترة من الزمن مصدوما ومندهشا قبل أن تبدأ قصة النجاح والتألق الذي يتواصل إلى اليوم في انتظار تحقيق وصية الجد، وتلك قصة أخرى.
فبالعودة سنوات إلى الوراء، كان مارسيلو على مشارف اتخاذ قرار مصيري في حياته، فبعد أن لعب لبعض السنوات عندما كان فتى يافعا، كادت تعصف به اضطرابات المراهقة حيث قرر وهو في سن الخامسة عشرة أن ينقطع عن ممارسة كرة القدم، لم يعد راغبا باللعب أو التدرب، لكن جلسة واحدة حاسمة مع جدّه جعلته يعدل نهائيا عن هذه الفكرة.
لقد عرض فكرة الكفّ عن اللعب والالتفات إلى الدراسة على جده، بيد أن رد هذا الجد كان غير ما كان ينتظره مارسيلو، لقد بكى الجد وأخبره بأنه لا يستطيع أن يبتعد عن كرة القدم، بل قال له إنه يريد أن يراه قريبا يلعب ويركض في ملعب الماراكانا المعروف في البرازيل.
لقد أثّرت تلك اللحظة الصادقة والشاعرية كثيرا في نفس مارسيلو فهربت فكرة الاعتزال المبكّر من ذهنه وذهبت بلا رجعة، بل الأكثر من ذلك أن مارسيلو حقق وصيّة الجد بعد سنتين عندما أتيحت له فرصة اللعب في ملعب الماراكانا الذي يعتبر رمزا لكل البرازيليين المتيمين بحب كرة القدم.
تلك الحادثة جعلت مارسيلو أقوى بكثير من ذي قبل، لقد ترك “ترّهات” المراهقة وأفكاره المضطربة جانبا وبات يبحث عن أفق أرحب وتحديات أكبر من الظهور في ملعب الماراكانا فقط، لقد بات هاجسه هو تحقيق مسيرة لامعة وموفّقة للغاية، وأيضا تحقيق حلم ملايين البرازيليين بالقبض على كأس العالم من جديد بعد أن استعصت عليهم منذ مونديال 2002.
يقول مارسيلو إن مونديال البرازيل سنة 2014 جعله يشعر بحرقة كبيرة فبكى بشدة بعد تلك الهزيمة الموجعة والمذلة التي تلقاها منتخب البرازيل ضد نظيره الألماني والتي حوّلت الحلم الوردي الجميل إلى كابوس أسود مزعج.
لقد استذكر وتذكّر تلك الجلسة الشاعرية مع جدّه، وأدرك أن الوصية تتعدى مجرد اللعب في الماراكانا، بل هي وصية شاملة وبعيدة المدى هدفها بلوغ قمة المجد والمساهمة في صنع تاريخ مشرق جديد للكرة البرازيلية، فأدرك مارسيلو البالغ حاليا تسعا وعشرين سنة أن مونديال روسيا القادم بعد أشهر قليلة قد يكون أفضل حدث لتحقيق الوصية الحقيقية ورفع اللقب العالمي عاليا حتى يرد منتخب بلاده الاعتبار لكافة البرازيليين بعد صفعة المونديال الذي نظموه قبل أكثر من ثلاث سنوات.
اليوم يدرك مارسيلو حتما أنّه سليل ثقافة كروية برازيلية ممتعة وراقية، هو بلا شك سليل لاعبين سابقين لعبوا في الدفاع وفي مركز الظهير لكنّهم تألّقوا ووصلوا إلى عنان السماء، ألم يكن كافو مثلا قائد منتخب البرازيل المتوّج بكأس العالم سنة 2002 مثالا لقدرة البرازيليين على التألق والبروز في مركز الظهير، فكافو كان ظهيرا أيمن لا يقارن في تلك الفترة؟
ألم يكن روبيرتو كارلوس النجم السابق لريال مدريد والمنتخب البرازيلي أحد أساطير الكرة في العالم رغم أنه يلعب في خطة ظهير أيسر؟ ألا يتذكر الجميع ذلك الهدف الخرافي الذي سجله كارلوس ذات مباراة ودية ضد فرنسا؟
اليوم وليس غدا سيتعين على مارسيلو أن يسير على خطى أسلافه ويؤكد أن الإبداع لا يرتبط دوما بنجومية المهاجمين، ومن موقعه في الرواق الأيسر قد يقود ريال مدريد للبقاء في القمة وقد يقود أيضا منتخب “السامبا” للمجد العالمي الغائب منذ سنوات.
كاتب صحافي تونسي