وسائل الإعلام التقليدية الأميركية تصفي حسابها مع ترامب

مع اختفاء الصحافي جمال خاشقجي تجد وسائل إعلام أميركية في القضية فرصة لوضع أجندتها اليسارية الداعمة لحرية التعبير في خدمة الديمقراطيين.
الجمعة 2018/10/19
مواجهة مستمرة

دخلت وسائل الإعلام الكبرى في الولايات المتحدة، على ما يبدو، معركة "تصفية حسابات" شخصية مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي هاجمها وشكك في مصداقيتها. ووجدت سي أن أن وواشنطن بوست ونيويورك تايمز وغيرها من وسائل الإعلام الأميركية، وحتى الأوروبية، في قضية اختفاء الصحافي السعودية جمال خاشقجي فرصة جديدة لمهاجمة ترامب ومواقفه العدائية، مدفوعين بدعم من الديمقراطيين ضمن الاستعدادات لخوض انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.

واشنطن- وجدت وسائل الإعلام الأميركية في قضية اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، ورقة مناسبة لتصفية حساباتها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي بنى شرعيته الانتخابية على معاداة المؤسسة التقليدية، ومنها وسائل الإعلام، التي وصفها بأنها مسؤولة عن ترويج الأخبار الكاذبة والملفقة وأنها “عدو الشعب الأميركي”.

وترى صحف وقنوات تلفزيونية كبرى أن الوقت قد حان “كي يدفع ترامب الثمن”، من خلال تحويل قضية اختفاء خاشقجي إلى “جولة جديدة” مع الرئيس، تكون نتيجتها هذه المرة لصالح وسائل الإعلام.

ويرى بعض المسؤولين والمحررين الكبار في هذه المؤسسات انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، التي من المقرر أن تجرى في نوفمبر القادم، فرصة لتلقين ترامب درسا سياسيا قاسيا، على شهور طويلة من هجومه المكثف عليها.

وتدرك الطبقة الإعلامية والصحافية الأميركية أبعاد استراتيجية الرئيس الأميركي، الذي يرغب في القضاء على مصداقية راسخة عملت عليها طوال عقود طويلة، وحصر المصداقية في مجموعة من التغريدات التي يطلقها عبر تويتر، مستهدفا بشكل أساسي قاعدته الجماهيرية من الأميركيين اليمينيين.

ويكشف مسار التغطية التصعيدي إلى أي مدى تصبو كبرى وسائل الإعلام الأميركية، على غرار سي.أن.أن وواشنطن بوست ونيويورك تايمز، إلى تصفية حسابها مع الرئيس الأميركي، في حملة اجتذبت أيضا صحفا أوروبية، وضمن معركة تبدو شخصية إلى حد كبير وتستهدف ترامب، على حساب اهتمامها بإظهار الحقائق المرتبطة بقضية اختفاء جمال خاشقجي.

ومن أبرز ما ورد، الخميس، في الصحافة الأميركية والبريطانية والفرنسية، حول هذه القضية المثارة منذ الثاني من أكتوبر هو نشر صحيفة واشنطن بوست آخر مقال كتبه خاشقجي لصالحها قبل اختفائه وحمل عنوان “أكثر ما يحتاجه العالم العربي هو حرية التعبير”.

وأثار توقيت نشر المقال تساؤلات كثيرة حول خلفيات ذلك وعلاقته بالتصعيد الذي أعقب زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للرياض وتأكيد الرئيس الأميركي أن لا شيء يمكن أن يؤثر في العلاقات الأميركية السعودية، وأنه يرفض المقولة التي ترددها وسائل الإعلام بأن “المتهم مدان حتى تثبت براءته”.

وقالت واشنطن بوست إنها أرجأت نشر المقال إلى حين ظهور خاشقجي، لكن تواصل الغموض حول مصيره فرض على كارن عطية، محررة قسم الآراء العالمية بالصحيفة، تصديق فرضية القتل وعدم إمكانية ظهور خاشقجي.

اللافت في مختلف هذه التغطيات، تجاهلها الواضح لموقف السعودية، كما إغفال آراء متخصصين في التحقيقات في مثل هذه القضايا، ومقابل ترديد كلام يبدو “تقليديا” عن السعودية وحقوق الإنسان

وذيلت عطية المقال، الذي نشر بالنسخة الإنكليزية وترجمة إلى العربية، بالقول “تلقيتُ مقال الرأي هذا من مترجم ومساعد جمال في اليوم الذي تلا الإبلاغ عن فقدانه في إسطنبول. صحيفة واشنطن بوست قررت تأجيل نشره لأننا أملنا أن يعود جمال إلينا كي نستطيع نحن الاثنين تحريره سويا. الآن عليّ أن أتقبل أن ذلك لن يحصل”.

وكانت صحيفة واشنطن بوست اتّهمت ترامب وإدارته، في نفس العدد (الأربعاء) بتنفيذ “عملية تنظيف دبلوماسي” لإخراج السعودية وولي العهد الأمير محمد من سلمان من قضية الصحافي المفقود. وفي مقال وقّعه مجلس تحرير واشنطن بوست بعنوان “لماذا تقوم إدارة ترامب بالتنظيف لحساب السعودية؟” طالبت الصحيفة بإجراء تحقيق مستقلّ في ملابسات اختفاء خاشقجي الذي كان يكتب مقالات لحسابها.

وقالت إنّ “السعوديين بصدد إعداد رواية تعزو المسؤولية عن مقتل خاشقجي إلى تجاوزات فريق أرسل لاستجوابه. هذا الأمر من شأنه أن يُبعد مسؤولية (هذه الجريمة) عن ولي العهد الذي يُعتقد أنّه أمر بتنفيذ العملية وأشرف عليها”. واعتبرت واشنطن بوست أن “الرئيس ترامب قال إنّه أكثر من مستعد للمساعدة في هذه المؤامرة”، مشدّدة على أنّه “ما لا ينبغي أن يكون مقبولا هو عملية تنظيف دبلوماسي تنفّذها إدارة ترامب لحساب نظام وزعيم”.

تقوم الحملة التي تتبناها وسائل الإعلام الأميركية، منذ اختفاء خاشقجي في الثاني من أكتوبر الجاري، على تحويل ترامب والأمير محمد بن سلمان إلى هدف واحد مزدوج، يمكن التصويب نحوه من أجل الوصول إلى هدف مشترك، وهو القضاء على رصيدهما السياسي ومستقبلهما في السلطة في الولايات المتحدة والسعودية.

وهذه هي القضية الأولى، منذ وصول ترامب إلى السلطة، التي تتحد فيها وسائل الإعلام اليسارية واليمينية والمعتدلة معا في سياسة تحريرية واحدة، تتناول قضية متشعبة تؤثر بشكل مباشر على تفاعلات الداخل الأميركي، كما تستهدف أحد الأركان الأساسية في معادلة السياسة الخارجية الأميركية، وهي السعودية. وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن مسؤولي أجهزة الاستخبارات الأميركية باتت مقتنعة بأن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد يكون “له دور بمسألة جمال خاشقجي”. وأشارت إلى أن أجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية لم تجمع بعد أدلة دامغة بخصوص إصدار ولي العهد أوامر تتعلق بقضية خاشقجي إلا أنه “بمرور الوقت باتت الأدلة من الدرجة الثانية تزداد”. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين لم تسمهم، وصفهم لزيارة وزير الخارجية مايك بومبيو إلى السعودية -“بهدف إيجاد حل دبلوماسي” بخصوص حادثة اختفاء جمال خاشقجي- بـ”الكارثة”.

في السياق ذاته، أوضحت مجلة فورين بوليسي أنّ قضية خاشقجي كشفت عن “الوجه الاستبدادي القبيح خلف الصورة الإصلاحية لولي العهد السعودي”. وحول تداعيات القضية، خصصت مجلة ذا هيل الأميركية مقالا للحديث عن كيفية التعامل مع السعودية مستقبلا بعد واقعة اختفاء جمال خاشقجي، لا سيما مستقبل العلاقات بين واشنطن والرياض.

بدورها، خرجت صحيفة ديلي ميل البريطانية عن السياق الحالي عبر الاكتفاء بالحديث عن قضية خاشقجي، وأشارت في تقرير لها الأربعاء، إلى أنّ الصحافي السعودي ليس “الضحية الوحيدة” للنظام السعودي، بل هو فصل في سلسلة اختفاءات طالت أيضا عددا من أفراد العائلة الحاكمة في السعودية.

سوزان نوسيل: قضية خاشقجي تقدم لوسائل الإعلام الرئيسية فرصة لمهاجمة ترامب
سوزان نوسيل: قضية خاشقجي تقدم لوسائل الإعلام الرئيسية فرصة لمهاجمة ترامب

أما صحيفة لوفيغارو الفرنسية فذهبت إلى حد القول إن “هيئة البيعة السعودية اجتمعت لبحث اختيار ولي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، على خلفية الضغوط الدولية المثارة ضد المملكة بعد اختفاء جمال خاشقجي”. ونقلت الصحيفة الأربعاء، عن مصدر دبلوماسي في العاصمة باريس، وتم تأكيدها من مصدر آخر سعودي في الرياض، أن “هيئة البيعة اجتمعت منذ أيام بحضور ممثل لكل عائلة لبحث قضية ولاية العهد”. وأضافت أن الاجتماع حضره نحو 7 ممثلين عن العائلات الملكية على الأقل، لبحث الأزمة الناتجة عن اختفاء خاشقجي منذ نحو 16 يوما.

الإقرار بفرضية القتل، كان وراء محاولة قناة سي.أن.أن رسم السيناريو الذي ستؤول إليه القضية، فأشارت إلى إمكانية البحث عن “ضحية” لإلقاء اللوم عليها في اختفاء خاشقجي (دون تحديد هويتها). في المقابل، كان لافتا ابتعاد سي.أن.أن عن إمكانية تحميل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المسؤولية في اختفاء خاشقجي، بالتأكيد على أن لقاء وزير الخارجية مايك بومبيو والأمير محمد بن سلمان في السعودية “كان ودودا جدا”.

اللافت في مختلف هذه التغطيات، تجاهلها الواضح لموقف السعودية، كما إغفال آراء متخصصين في التحقيقات في مثل هذه القضايا، ومقابل ترديد كلام يبدو “تقليديا” عن السعودية وحقوق الإنسان.

ويقول خبراء في الإعلام الغربي إن “صورة المشروع الإصلاحي الذي يتبناه ولي العهد السعودي من الممكن أن تتحول إلى معركة تكسير عظام داخلية بين ترامب والمؤسسة التقليدية المعروفة بالدولة العميقة في الولايات المتحدة”.

ومن وجهة نظر الصحافية الأميركية سوزان نوسيل “يزود اغتيال خاشقجي وسائل الإعلام الرئيسية بالفرصة لفعل ما هو أفضل من ذلك وهو مهاجمة الرئيس ترامب”، وكتبت نوسيل، في مجلة بوليتكو، قائلة “تصف وسائل الإعلام الأميركية خاشقجي بأنه صحافي، لا سيما أنه ساهم بكتابة بعض المقالات في صحيفة واشنطن بوست. ومع ذلك، أعتقد أنه من الدقة أن نطلق على خاشقجي عميلا، أو كما قال ديفيد غولدمان: شبح على مستوى عالٍ لعب لعبة خطيرة في السعودية”.

وتضيف نوسيل “الحكومة الروسية تقتل الصحافيين، من بين آخرين. لا أتذكر أن صحيفة واشنطن بوست احتجت -على أساس ذلك- على إعادة إدارة باراك أوباما للعلاقات مع حكومة فلاديمير بوتين أو تعهد أوباما بأن يكون أكثر مرونة مع روسيا بعد إعادة انتخابه. ولم تكن معاملة كوبا للصحافيين أفضل من روسيا. ومع ذلك، دعمت وسائل الإعلام الرئيسية إدارة أوباما عندما أعادت بشكل جذري العلاقات الأميركية مع كوبا دون الإصرار على أي تغيير في معاملة النظام الكوبي للمعارضين”.

وتجد وسائل إعلام أميركية عدة في اختفاء خاشقجي فرصة لوضع أجندتها اليسارية الداعمة لحرية التعبير في خدمة الديمقراطيين، الذين يأملون في انتزاع الأغلبية على الأقل في أحد المجلسين (الشيوخ والنواب)، وهو ما سيسهم في تقويض أجندة ترامب وفرض قيود على الكثير من قراراته، التي ينظر إليها على نطاق واسع في أوساط الصحافيين والإعلاميين باعتبارها قرارات غير مسؤولة، وتثير انقسامات حادة في المجتمع الأميركي، وتضر بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها في الخارج.

في المقابل، ترى نوسيل أنه “يجب ألا تتسبب قضية اختفاء خاشقجي في تغيير الولايات المتحدة لسياستها الخارجية بشكل جوهري، وعلاقتها الوثيقة نسبيا مع السعودية قائمة على المصالح المتبادلة والخصوم المشتركة”، معتبرة أنه من “الغباء الحديث عن تغيير العلاقة بشكل جذري”، خاصة وأن “وسائل الإعلام لن تدافع عن موقفنا هذا إن حدث” فالهدف من الجدل الراهن هو تصفية الحساب مع ترامب بدرجة أولى.

6