وزارة التناقضات "التعليم سابقا" يتّحد ضدها المؤيدون والمعارضون

القاهرة - يعكس الجدل الحاصل في مصر بشأن التخبّط الحاصل في المنظومة التعليمية لأي درجة وصلت علاقة المواطنين بالحكومة بسبب تكرار إخفاقاتها في معالجة الخلل في ملف التعليم، فهناك شكوك تتجاوز خطة التطوير التي تم إطلاقها منذ خمس سنوات واتهامات لا تهدأ بأن ما يحدث على أرض الواقع يعبر عن عشوائية وغياب نظم تعليمية.
منذ أن أعلنت وزارة التربية والتعليم قبل أيام نتيجة الثانوية العامة وحالة الشدّ والجذب بين الشارع والوزارة لم تتوقف على وقع تدني درجات غالبية الطلاب، مقابل حصول شريحة قليلة منهم على نسب مرتفعة، تبين في النهاية أن هناك شبهة غش جماعي حدثت في بعض اللجان دون أن تتخذ الوزارة موقفا صارما.
وكشف نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي شبهة الغش الجماعي، في حين كانت الوزارة قد أعلنت النتيجة ولا تدري إذا كانت الدرجات التي حصل عليها المئات من الطلاب في بعض اللجان حقيقية أم مطعونا في نزاهتها، ثم قررت وقف إعلان نتيجة أصحاب هذه الدرجات وإجراء تحقيقات قانونية في الموضوع.
تبين هذه الواقعة عمق الفوضى التي تضرب المنظومة التعليمية، فليس مطلوبا من الناس أن ينبهوا المسؤولين إلى وقائع غش جماعي، وهم لا يعرفون كيف يتصرفون حيال المطلوب لتكون هناك عدالة ويقتصر التفوق على الطلاب المجتهدين.
أصبحت كل خطوة وكل قرار يصدر عن وزارة التربية والتعليم التي يقودها طارق شوقي يصاحبه جدل واسع يمتد لأيام وربما يصل إلى شهور، فالواقع مرتبك والاستراتيجية العامة يحيط بها التخبط، ولا توجد رؤية واضحة لدى الوزارة للإصلاح دون صدام مع شريحة كبيرة من المواطنين، وتتكرر الأخطاء وفقا لسيناريو واحد.
وزارة التناقضات
عندما حاولت الوزارة إقناع الناس بالتطوير الحاصل في نظام امتحانات الثانوية العامة قالت إن طريقة التقييم الحديثة سوف تقضي على الدروس الخصوصية وتمنع الغش نهائيا وتفرز المجتهد من الفاشل ولن ينجح سوى من يستحق، وكانت المفارقة أن كل ما روجت له الوزارة لم يتحقق منه شيء.
مع نهاية كل سنة دراسية، يتحدث أولياء الطلاب عن أنهم اعتمدوا بشكل تام على الدروس الخصوصية لتراجع دور المدارس وانقطاع الطلاب عن الذهاب إليها، وهناك من يخرج للتفاخر بكونه نجح بالغش، ويرسب طلاب كانوا طيلة حياتهم من المتفوقين دراسيا، لكنهم لا يعرفون السبب وآخرهم طالبة حصلت على 51 درجة من 410 درجات في البكالوريا رغم أنها كانت الأولى على محافظة المنيا في جنوب مصر، قبل ثلاث سنوات فقط عندما كانت تدرس في الشهادة الإعدادية، ما أثار غضبا واسعا ضد وزارة التعليم.
يكتشف المتابع عن قرب للمشهد التعليمي في مصر لأي درجة أصبح العداء واضحا بين الطلاب وأولياء الأمور من جانب، ووزارة التعليم من جانب آخر، فكل صف دراسي من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية بات محاطا بقرارات مثيرة للغضب والعجب، وهي أزمة تواجه الحكومة ولا تجد لها مخرجا، فعدد الطلاب في مرحلة التعليم قبل الجامعي يقتربون من 26 مليونا، أي قرابة 25 في المئة من تركيبة المجتمع المصري، بخلاف أسرهم وأقاربهم، أي كل الشعب تقريبا مهموم بالتعليم.
الحكومة المصرية أنفقت على أجهزة التابلت نحو 13 مليار جنيه منذ تطبيق التجربة عام 2017، لكن الطلاب لم يستفيدوا منه، والبعض قام ببيعه، وآخرون تعمدوا "تهكيره" لاستخدامه في الغش
أصبحت تصنف وزارة التعليم على أنها الحقيبة الحكومية الوحيدة التي اجتمع ضدها المؤيدون والمعارضون لنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، مع أن الرجل يتعامل مع تطوير التعليم بأولوية قصوى ويحرص على متابعته عن قرب، وكثيرا ما اجتمع بالوزير شوقي لبحث التحديات وتذليلها، وتقديم الدعم في مواجهة المعارضين لطريقة إدارته للملف بعدما وصل التذمر من سياساته مستوى المطالبة برحيل الوزير.
لا يعني ذلك أنه لا توجد شريحة مؤيدة للوزير شوقي، لكن هؤلاء قلة وأغلبهم يخشى دعمه علانية كي لا يتعرض للتنمر والسخرية من شدة عداء الطلاب وأولياء الأمور لوزارة التعليم، والتمسك بتطبيق منظومة جديدة تبدو غير واقعية ولا مؤهلة للنجاح وسط تعقيدات عديدة موجودة على الأرض.
من يسمع ويشاهد تصريحات وزير التعليم المصري يقتنع بأن لديه حلما كبيرا يرغب في تحقيقه للقضاء على الجهل والأمية، ويأمل لبلاده أن ترتقي إلى القمة في التعليم ما قبل الجامعي، ويبحث عن تطبيق تجارب كتلك الموجودة في دول مثل فنلندا وألمانيا وكندا، لكن مشكلته في غياب الدعم له، فهو مكبل اليدين من حيث الوفرة المالية التي تساعده على تطبيق رؤيته، فالمدارس متهالكة ومكدسة، والمعلمون أقل من المطلوب.
تتجه وزارة التعليم لتعيين 150 ألف معلم لسد العجز الصارخ في المدارس، لكن هؤلاء سيتم التعاقد معهم على مدار خمس سنوات، أي بواقع 30 ألفا فقط كل عام، مع أن العجز في المدارس يصل إلى 350 ألف مدرس، فما يصبو إليه الوزير شوقي من مناهج عصرية وطرق شرح معاصرة وآليات تقييم حديثة تصطدم بندرة في الكوادر البشرية التي تطبقها، ولذلك الغضب الموجه إليه يكاد يكون منه بريئا.
واقع غامض
يصطدم نظام التعليم الراهن ببيئة مدرسية واجتماعية وثقافية شديدة التعقيد حالت دون تحقيق الأهداف المرجوة في مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي اللذين يشملهما التطوير، وظهر وزير التعليم أمام الشارع كأنه يتحرك في اتجاه معاكس تماما للواقع المتردي في المدارس بعدما أخفق في تكوين ظهير سياسي واجتماعي وتربوي خلفه.
تعول وزارة التعليم على الوصول إلى نظام تعليمي له قوام فكري وثقافي وتنموي راسخ، لكن الطموحات تفتقد للظهير المجتمعي الذي يدافع عنها ويصبر لتحقيقها.
ثمة معضلة أخرى ترتبط بلغة الخطاب الموجه للشارع حول القرارات والسياسات التعليمية، فالوزير شوقي يتحدث للناس بلغة “اليونسكو”، باعتباره كان مديرا سابقا للمنظمة في القاهرة، أي أنه لا ينزل بخطابه ليكون في مستوى فهم الأسر البسيطة التي لديها الملايين من الطلاب في مدارس حكومية مجانية، وبالتالي فالشارع لا يستوعب التطوير وإن كان صحيحا وحتميا.
المتابع عن قرب للمشهد التعليمي في مصر يكتشف لأي درجة أصبح العداء واضحا بين الطلاب وأولياء الأمور من جانب، ووزارة التعليم من جانب آخر، فكل صف دراسي من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية بات محاطا بقرارات مثيرة للغضب والعجب
كما أن فكرة الإنجاز السريع لا يجب أن تنطبق على المنظومة التعليمية التي تحتاج لتسير بخطى متدرجة كي يقتنع الناس بجدوى التطوير والتحديث، لكن المشكلة أن الحكومة تريد الانتهاء من الملف سريعا كأنه مشروع تنموي ولم تُدرك أن التطوير يحتاج إلى دعم شعبي أولا.
مع تكرار الإخفاقات وارتفاع منسوب الغضب تمضي وزارة التعليم في طريقها غير عابئة بكل ذلك، وتبدو مبرراتها المرتبطة بالفشل في أي ملف غير مقنعة، فهي التي تتحدث عن حتمية عدالة الامتحانات واستحالة نجاح الطلاب ضعاف المستوى ثم تقرر فجأة منح الدرجة الكاملة لأي طالب تعرض لمشكلة تقنية في أثناء الامتحانات الإلكترونية دون أن يؤدي الامتحان، بينما يحصل المجتهد على درجات أقل لأن “السيستم” أو النظام الإلكتروني لم يسقط معه.
أنفقت الحكومة على أجهزة التابلت نحو 13 مليار جنيه (حوالي 700 مليون دولار) منذ تطبيق التجربة عام 2017، لكن الطلاب لم يستفيدوا منه، والبعض قام ببيعه، وآخرون تعمدوا “تهكيره” لاستخدامه في الغش الإلكتروني، ما أثار استياء الأهالي مع كل حديث عن التابلت، فكان من الأولى إنفاق كل هذه الأموال على بناء مدارس جديدة وترميم القديمة لوضع حد لزيادة الطلاب، فالمعلمون عجزوا عن شرح المقررات الدراسية وسط التكدس الكبير.
يبرهن المشهد الراهن على أن جوهر الخلاف بين الشارع المصري ووزارة التعليم يكمن في أن الأخيرة تتمسك ببناء العقول دون توفير الجدران اللازمة التي تستوعب الكثافات، ويرفض المعلمون والأسر هذا المنطق لأن العقول لن تُبنى بطريقة عصرية في بيئة متهالكة وخطة غير واقعية وسياسات متخبطة.
من السعادة إلى التعاسة
ما جدوى تطوير المناهج في الصفوف الدراسية الأولى وإنفاق مبالغ ضخمة ولا يوجد معلمون بالقدر الكافي، وإن وجدوا فما جدوى التطوير إذا لم يتم تدريبهم على تقديم المقررات المعاصرة للطلاب، وما جدوى التعلم الرقمي في بيئة لا تتوافر لها شبكة جيدة من الإنترنت؟
ما يثير غضب الناس باستمرار أن الحكومة أصبحت تكرر الزج باسم الرئيس السيسي في كل قرار وسياسة تعليمية ترغب في تطبيقها وتروج للشارع أنها مدعومة من رأس الدولة كنوع من الترهيب، لكنها لم تُدرك أن الأسر تتعامل مع مصير أولادها في التعليم باعتباره خطا أحمر لا يجب الاقتراب منه، لا من وزير التعليم أو غيره.
تدخل الرئيس السيسي شخصيا كثيرا في إصلاح مسار بعض القرارات التعليمية التي كادت أن تتسبب في انفجار غضب الناس، فالحكومة قررت إجراء امتحانات شهادة البكالوريا إلكترونيا، رغم تكرار سقوط “السيستم”، لكن الرئيس وجه بإجرائها ورقيا، وكثيرا ما دعا أولياء الأمور للصبر والوقوف خلف وزارة التعليم، داعيا إياهم للكف عن النقد والتجريح، ما يعكس أنه يعلم كل ما يجري من غضب ضد وزارة التعليم.
يصعب فصل الجدل المتصاعد حول كل قرار تعليمي عن غياب الكوادر المنوط بها تنفيذ هذه السياسات في الأقاليم المصرية المختلفة، فأغلب المسؤولين هم جزء من المنظومة القديمة التي يبحث الوزير شوقي عن نسفها، ويتعاملون مع التطوير بعقلية روتينية، وبينهم أكاديميون لم يعملوا في المدارس من قبل، ما تسبب في اتساع الفجوة الفكرية بين واضعي نظام التعليم ومديري المدارس والجمهور.
حالة الشد والجذب بين الشارع والوزارة لم تتوقف، منذ أن أعلنت قبل أيام نتيجة الثانوية العامة، على وقع تدني درجات غالبية الطلاب، مقابل حصول شريحة قليلة منهم على نسب مرتفعة
والمعلمون أيضا، إما رافضون للتطوير لأن من بين أهدافه ضرب مصالحهم وإلغاء الدروس الخصوصية مستقبلا أو لأنهم غير شركاء في وضع استراتيجية التطوير، وتم استبدالهم بخبراء أجانب وأكاديميين من جامعات مختلفة، ما جعلهم يشعرون بالتهميش، رغم أنهم أساس العملية التعليمية، والفئة الوحيدة التي بيدها تنفيذ السياسة ونجاحها أو فشلها.
منذ عقود طويلة ووزير التعليم من غير شريحة المعلمين، فقد نشأت عام 1837 ولم تكن وقتها وزارة، بل ديوانا للمدارس، ومع مرور الوقت وتغير أنظمة الحكم بدأت تتحول من مجرد ديوان ومديرية تعليمية إلى حقيبة حكومية يتعاقب عليها الوزراء، وجلهم من الأكاديميين وليسوا من العاملين في المدارس مباشرة.
تعاملت الحكومة مع الطلاب والأهالي والمعلمين بسياسة الأمر الواقع دون إدراك أن الثقافة التربوية لعدد كبير منهم يصعب تغييرها في أشهر أو سنوات قليلة، فانعكس ذلك على صورة وزير التعليم الحالي في نظر الشارع، فبعد أن كان مصدر التفاؤل والسعادة للكثيرين بعد تكليفه بالمهمة في العام 2017، صار متهما بأنه وزير للتعاسة وتعكير صفو الطلاب وأولياء الأمور.
لم يعد أمام الحكومة إذا أرادت إبرام مصالحة مع الشارع إلا أن تضع التعليم على رأس أجندتها بمضاعفة ميزانية الوزارة كما نص الدستور، والتدخل لإصلاح مسار الخطة المطبقة منذ خمس سنوات ولا تزال مثيرة للجدل، لأن التمادي في عناد الملايين من الطلاب وأسرهم يقود لمعارضة جديدة، غير سياسية أو حزبية، بل مجتمعية، وسيكون من الصعب ترضيتها، وقد يأتي وقت ترضخ فيه وزارة التعليم لهذا الحزب الكبير.