ورقة الميليشيات تفقد صلاحيتها بتراجع نفوذ داعميها

إثر الغزو الأميركي للعراق، انهارت السلطة العسكرية المركزية، بما فتح الباب أمام ميليشيات وجماعات مسلحة طائفية لتحل محل الجيش. تكرر السيناريو في دول عربية أخرى بعد الفوضى التي اندلعت في سنة 2011. ضخت دول مثل إيران وتركيا وقطر أموالا وقدمت دعما هائلا للميليشيات المسلحة لكن كان المردود قصير المدى، حيث بدأت الجيوش الوطنية تستعيد عافيتها، كما يحدث اليوم في ليبيا. وبات الجميع يؤكد أن الطريق إلى الاستقرار المنشود في المنطقة يبدأ بإعادة الميليشيات إلى القمقم.
القاهرة - انتعشت الكتائب المسلحة في السنوات الأخيرة. وبدت، في بعض الدول العربية، رديفا للقوات النظامية أو منافسا لها. وتسببت الميليشيات في زيادة الصراعات العسكرية، خاصة عندما تمكن قادتها من الحصول على دعم سخي من جهات مختلفة، وحولهم الدعم إلى لاعب رئيسي في توترات عدة.
لكن، اليوم هناك بوادر أو ميل لمراجعة بطيئة عقب استفحال دور هذه الميليشيات وتوظيفها كأذرع طويلة في بعض النزاعات الإقليمية، بما أخل بالتوازنات على جبهات ساخنة، وحال دون الوصول إلى تسويات سياسية في بعض الدول العربية التي تمر بلحظات مصيرية.
تشكلت الجماعات المسلحة في أزمنة سابقة لأغراض عدة، منها ما هو قبلي وعرقي للدفاع عن مصالح جهات تتعرض للخطر من حكوماتها المركزية، أو لها مطالب سياسية تعتقد أنها مشروعة، ومنها ما ارتبط بمكافحة الاستعمار القديم تحت لافتة حركات التحرير، وما يعرف بالمقاومة، خاصة ما يتعلق بالتخلص من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.
هناك من الجماعات ما تشكل لأسباب دينية وانتعش مع الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وألقى بحممه وإفرازاته لاحقا على المنطقة العربية، وثمة ما بني على قاعدة مذهبية وطائفية وازدهر في التوقيت ذاته مع الثورة الإسلامية في إيران.
زال البعض من هذه الجماعات تماما، بحكم انتهاء المهمة وما لحق بها من ضعف. وبقيت مجموعات تمارس دورها حسب التطورات والدعم الذي تتلقاه من العناصر الممولة. ارتفع صوت آخرين وتحولوا إلى قوة مؤثرة تتفوق في نفوذها وهيمنتها على مؤسسات نظامية، وأصبحوا رقما أساسيا في معادلات إقليمية متغيرة. يتلقون الدعم في العلن ومن جهات لم تعد مجهولة. وتلتحف بغطائهم دوائر سياسية رسمية، ودخلا في تحالفات مركبة، ظاهرة وخفية، والتقت المصالح عند نقاط يصعب الفكاك منها.
استفادت بعض الدول الغربية من الظاهرة لتبرير تقاعسها أو إطالة أمد صراعات لم تتبلور ملامحها بعد، وراقبتها عن كثب، لكن لم ترفضها أو تبدي ممانعة حاسمة ضدها، بل اقتربت وتوافقت مع بعضها، الأكراد مثلا، بحجة أن لهم مطالب قومية. كانت العلاقة خاضعة لتوازنات متعددة، ترتفع وتهبط، تتصادم وتتلاقى، وفقا لسياقات معقدة.
برعت دول كثيرة في جني الثمار من وراء الكتائب المسلحة، وتصورت أن أرباحها دائمة، واستخدامها سيستمر ويعلو من دون تحديات. تظل تركيا وقطر وإيران من أكثر الدول التي اعتمدت على الميليشيات المذهبية والدينية والعصابات الإرهابية كواحدة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية، وتحقيق طموحات نوعية في المنطقة. لها وكلاء معتمدون داخل الكثير من الدول العربية، ويتلقون دعما ماديا ولوجستيا.
تتحول الأدوار أو يخفت بريقها، غير أنها لم تبرح خانة الانسجام والتلاحم، ولم تنفصل القواعد والهياكل عن الأهداف التي تسعى إليها الجهة-الجهات الراعية، وتتداخل الرغبة في تقويض الدول مع الإرهاب، والتحريض على التمرد والفوضى مع تشجيع الهجرة غير الشرعية وتجارة السلاح والمخدرات ونشر قيم دينية ومذهبية معينة، وما خفي كان أعظم.
ارتفعت تكلفة سوق الميليشيات في الشرق الأوسط، بما دفع بعض القوى التي غضت الطرف عنها إلى الالتفات لخطورتها أخيرا، وباتت من الكوابح التي تعطل تسوية بعض الأزمات الإقليمية. كما أن فكرة استمرار المعارك لأجل استنزاف أطرافها لم تعد صائبة في بعض الأزمات، وأطالت أمدها في بعض الأوقات، ولم تتوقف الشرايين التي تمر عبرها العناصر البشرية والمعدات العسكرية عن الضخ.
ظهرت مؤشرات على تجفيف المنابع في سوريا بعد الهزيمة التي تلقتها القوى المتطرفة هناك، داعش والنصرة وغيرهما، وتم سد الكثير من المنافذ التي يتسرب منها الدعم، والشروع في ترتيب الأوضاع بما يمهد لدخول عصر حقيقي من التسوية. قد تكون مكوناتها لحل يصمد ويقاوم القوى الرافضة لم تتكشف بعد، لكن الاتجاه العام يميل إلى ضرورة البحث عنه، الأمر الذي يتطلب التخلص من الدور الفاعل لما تبقى من كتائب مسلحة.
الحديث عن طي صفحة الميليشيات يتزايد على الساحة الليبية، وأصبح أحد الأهداف الرئيسية لأي عملية سياسية جادة في هذا البلد
تزايد الحديث عن طي صفحة الميليشيات على الساحة الليبية، وأصبح أحد الأهداف الرئيسية لأي عملية سياسية جادة هناك. لم تعد مراوغات القوى الراغبة في بقائها تنطلي على قوى كثيرة. كل المبادرات والمقاربات تمنح أولوية لمحو سجل العناصر المسلحة، وحتى لو كان هناك من يحققون استفادة من ورائها، فالخطاب المعلن لغالبية القوى المحلية والإقليمية والدولية ينحو تجاه المطالبة بالتخلص من شرورها. صارت عبئا سياسيا على الجميع، وباتوا غير قادرين على تحمل تداعياته مستقبلا.
يؤكد الاهتمام بالوصول إلى صيغة محكمة للسلام الشامل في السودان ودولة جنوب السودان، انتهاء الزمن الذي كانت فيه الحركات المسلحة طرفا مفصليا. فثمة قوى إقليمية ودولية تنخرط في محادثات عديدة لغلق صفحات قاتمة في الحروب الأهلية، ووقف الاستثمار في الميليشيات التي ساهمت بدور معتبر في ازدهارها داخل المنطقة، وحالت دون تحقيق الأمن والاستقرار في دول كثيرة.
عرفت المنطقة العربية أنواعا مختلفة من الحركات المسلحة، بعضها كانت لها أهداف وطنية ومشروعة، وجرى حرفها لخدمة أغراض قوى إقليمية، وبعضها تم تكوينها لتصبح من أذرعها العسكرية المركزية، وضمان أكبر قدر من السيطرة على مقاليد الأمور الداخلية في بلد المنشأ، واستخدامها كفيالق ضد أهداف خارجية، ومقدمة للجنود أو رأس حربة للدفاع عن الدول الراعية كي تكون ساحتها بعيدة عن المعارك المباشرة.
لجأت إيران إلى هذه الأداة كوسيلة لتصدير ثورتها الإسلامية، وحيلة لنشر مذهبها الشيعي، وحماية عناصرها الخفية، وقمع الجهات المناهضة لها، وقوة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، ولم تمانع في تمويل كتائب مسلحة وعناصر دينية سنية طالما التقت معها على قاعدة سياسية.
ولذلك أغدقت على ميليشيا حزب الله وتوابعه في لبنان حتى تضخمت وتحولت إلى دولة فوق الدولة. وأنشأت طهران فيالق مسلحة تحت مسميات متباينة، واستنسخت قواتها الأمنية لتنتشر في العراق، وصدرت نماذجها الغامضة لسوريا، ورعت الحوثيين في اليمن وتدمير مقدراته.
يبدو النظام الإيراني بتوجهاته التوسعية قاسما مشتركا في معظم الصراعات الإقليمية. كذلك أضحت الأطراف التي تعمل في كنفه وتحت عباءته واحدة من الأسباب التي تحول دون الهدوء وتوفير الأمن والاستقرار في المنطقة. بالطبع هناك عوامل أخرى، لكن تبقى طهران راعية رئيسية للميليشيات، كسرها يمكن أن يفتح الطريق لوقف نشاط كتائب مسلحة عديدة.
لدى دوائر كثيرة قناعة بأن إضعاف إيران اقتصاديا سيقود إلى تخفيض مستوى الدعم المالي للعناصر المسلحة التابعة لها، وتلك التي تدور في فلكها، وأي مواجهة عسكرية مباشرة مع الميليشيات قد تسفر عن المزيد من الاقتتال، بالتالي فخيار تجفيف المنابع يبدأ من طهران.
ولدى دوائر أخرى قناعة معاكسة، تؤكد صعوبة توقف الدعم الإيراني لهؤلاء، لأن الحبل السري الذي يربط الجانبين يجعل المصير واحدا، والبلاء يعم على الجميع. ولم يعتد قادة طهران الحياة بعيدا عن الحرس الثوري والباسيج وكل الأذرع التابعة لهما في الداخل والخارج، وفقدانهم يعني الانتحار.
تشير بعض المعطيات إلى وجود إرهاصات تراجع في مسألة الكتائب المسلحة بالمنطقة، أو على الأقل انخفاض في مستوى الدور الذي تلعبه في تقرير مستقبل الحرب والسلام. يحتاج هدمه إلى تعاون بين قوى إقليمية ودولية، وتنسيق لفتح الباب لمعاقبة الدول التي ترعى الميليشيات.