ورطة سياسية جديدة في تعامل القاهرة مع الأزمة الليبية

انحازت القاهرة إلى فتحي باشاغا وحكومته، وفي المقابل سحبت اعترافها ودعمها لحكومة عبدالحميد الدبيبة المنتهية ولايتها لتدخل في حسابات قد تكبدها خسارات كبيرة منها عرقلة تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة مع حكومة الدبيبة، والتي تحتاجها القاهرة لمواجهة الوضع الاقتصادي الحرج، ويظل ذلك رهن مراجعة مصر لموقفها المتغير بناء على تغيرات في اللجنة المسؤولة عن إدارة الأزمة الليبية.
القاهرة - عدلت مصر تعاطيها السياسي والعسكري مع الأزمة الليبية وفقا للتطورات على الأرض، وتوصلت خلال العامين الماضيين إلى موقف متوازن يجعلها منفتحة على غالبية القوى المؤثرة في المشهدين الداخلي والخارجي، بعد تأكدها من أن انحيازها إلى معسكر على حساب آخر سوف يكبدها خسائر فادحة.
فبعد أن استقرت مفردات هذه المعادلة حادت القاهرة عنها أخيرا منذ الإعلان عن تأييدها لحكومة فتحي باشاغا المعيّنة من قبل مجلس النواب في بداية العام الحالي، وهي من الدول القليلة، وربما الوحيدة، التي أعلنت اعترافها صراحة بحكومته وسحب اعترافها من حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وهي من المواقف الحدية النادرة التي تتبناها الدبلوماسية المصرية في الأمور الشائكة.
التذبذب الحاصل في تقديرات القاهرة يعود إلى تغيرات حدثت في اللجنة المصرية المسؤولة عن إدارة الأزمة الليبية
ومع صمود حكومة الدبيبة وعدم التخلي عنها سريعا وفشل حكومة باشاغا الموازية في الحصول على اعتراف دولي بها والتجاهل شبه التام لها، تصور مراقبون أن القاهرة ستعيد ضبط بوصلتها أو على الأقل لن تدخل في عداء سافر مع الدبيبة الذي لا يزال يملك أوراقا سياسية واقتصادية وعسكرية تجعله رقما محوريا في طرابلس بعد أن تمكن بمساعدة قوى مختلفة من تفويت الفرصة على غريمه باشاغا للإطاحة به.
وكان من المتوقع أن تستوعب القاهرة هذه الرسالة ومفادها أن الدبيبة مستمر حتى إشعار آخر طالما أن القوى الدولية لم ترفع الغطاء عن حكومته وتعلن تغييره.
لكن مصر اتخذت موقفا حاسما خلال اجتماع وزراء خارجية الدول العربية، الثلاثاء، وسحبت وفدها عندما صعدت وزير خارجية ليبيا نجلاء المنقوش لإلقاء كلمتها وتسلم رئاسة الدورة 158، في إشارة واضحة برفض التعامل مع حكومة الدبيبة ورموزها.
وحاولت القاهرة تأكيد تمسكها برفض اعترافها بحكومة الدبيبة بهذا الموقف، إلا أنها وضعت نفسها في ورطة متشابكة ناجمة عن عدم تقدير دقيق لعواقب هذه الخطوة في ظل تطورات دولية تعتقد أن الدبيبة عنصر مهم بعد حديث متواتر عن عقد مؤتمر جديد يضع حدا للإشكالية التي يسببها وجود حكومتين في طرابلس وبنغازي.
وجاء الموقف المصري عقب تعيين مبعوث دولي جديد إلى ليبيا، هو السنغالي عبدالله باتيلي، والذي من المتوقع أن يبدأ تحركاته قريبا بانفتاح على جميع الأطراف، من بينها حكومة الدبيبة ليتمكن من تحقيق اختراق يفتح أفقا لاسترداد الحراك السياسي في الأزمة الليبية بعد فقدانه مؤخرا.
ويشير هذا المحدد إلى عقد اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات مع أطراف الأزمة برعاية ومشاركة إقليمية ودولية، وهو ما يضع القاهرة في موقف حرج، إذ كيف ستشارك في اجتماعات يمكن أن يحضرها الدبيبة أو من ينوب عنه؟
ويقارن متابعون بين هذه الحالة وتلك التي كانت سائدة خلال حكومة الوفاق الوطني السابقة برئاسة فايز السراج، فلم تكن تتعامل القاهرة مع السراج ورفضت عروضا عديدة لاستقباله أو المصالحة معه، غير أنها لم تسحب اعترافها السياسي به، على الرغم من تجاوزه المدة المقررة له في رئاسة الحكومة، ما وفر لها مرونة في الحوار المباشر وغير المباشر معه في مؤتمرات عديدة حضرتها في وجود السراج.
ووضع الحديث عن عدم وجود سند شرعي لحكومة الدبيبة القيادة المصرية في موقف غامض، فلا هي تستطيع أن تسحب إعلانها الرافض له في بيان رسمي أو التعامل معه لاحقا في المحكات الدولية التي يمكن أن يكون طرفا فيها، وهي عكس دول أخرى وفرت دعما معنويا لباشاغا لكنها لم تتخذ خطوات تصعيدية ضد الدبيبة.
وتساءل المتابعون عن حجم الخسارة المادية التي يمكن أن تتكبدها القاهرة من وراء وضع حكومة الدبيبة في خانة غير المعترف بها من جانبها بعد أن وقّعت الحكومة المصرية معها العديد من الاتفاقيات الاقتصادية مؤخرا، في مقدمتها مجموعة من مشروعات كبيرة لإعادة الإعمار، والتي يمكن أن تدر عوائد كبيرة وتخفف من وطأة البطالة في مصر وتفتح أفقا لمستثمرين من أبنائها في ليبيا.
كما يمكن أن تتعثر الاتفاقيات، لأن حكومة الدبيبة لا تزال تسيطر على مفاتيح الاقتصاد في طرابلس، ولم تسحب منها جميع الأوراق وتنقل إلى باشاغا الحائر بين البقاء في بنغازي والزحف على طرابلس، وانتظار حبل إنقاذ يمكنه من السباحة السياسية عقب فشله في تنفيذ وعوده بشأن دخول طرابلس سلما أم حربا.
وبدأ رهان القاهرة على نجاح باشاغا في تثبيت أركان حكومته يسقط، كما سقط رهانها السابق على قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، وهو ما حاولت قوى مختلفة تحاشيه من خلال فتح خيوط تواصلها مع جهات مؤثرة في السلطة والمعارضة في آن واحد، وحاولت مصر تبنيه، لكن موقفها من حكومة الدبيبة يحتاج إلى إعادة صياغة.
وكشفت مصادر ليبية لـ”العرب” أن التحول، أو ما يمكن وصفه بـ”التذبذب” الحاصل في تقديرات القاهرة، يعود إلى تغيرات كثيرة حدثت في اللجنة المصرية المسؤولة عن إدارة الأزمة الليبية، والتي شهدت دخول وخروج قيادات متعددة جعلت مسألة البناء على المواقف السابقة ضعيفة، الأمر الذي انعكس على طبيعة الحوارات مع القوى الليبية ومعرفة الأوزان النسبية لكل منها ودرجة تأثيرها في المشهد العام.
وأشارت المصادر ذاتها إلى قوى ليبية خبرت التعامل مع قيادات في اللجنة وجرت تفاهمات معها أدت إلى عبور الكثير من العقبات، ثم اختفى هؤلاء وتولّت قيادات أخرى الدفة، على المستويين الأمني والسياسي، ما أحدث إرباكا داخل الطرفين، انعكست ملامحه على الموقف من حكومة الدبيبة.
أسهم قرار الحكومة المصرية السابق بالانفتاح على جميع القوى الليبية دون التقيد بمواقعها الجغرافية وميولها السياسية وانتماءاتها القبلية في تمكنها من إجراء حوارات متباينة مع الشرق والغرب والجنوب.
وأصبحت الدولة الأكثر أهمية في دول الجوار التي لا تستطيع أيّ من القوى الدولية تجاهلها في مشاوراتها، بما يتجاوز الحدود الشكلية للمشاركة، فقد تحولت مصر إلى عنصر فاعل بفضل إلمامها بجذور الأزمة الليبية وتشعباتها وقدرتها على تطوير العلاقات مع جميع الأطراف وامتلاك أدوات مؤثرة في أيّ منطقة ليبية.
كما باتت القاهرة مع الخصومة المعلنة ضد حكومة الدبيبة أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن تتراجع وتقبل التعاون معها، فلا أحد يمكنه القطع بموعد رحيل عبدالحميد الدبيبة حتى الآن، أو تصر على موقفها وتتحمل تبعية الخسائر السياسية والاقتصادية، حيث يمكن أن يلجأ الرجل إلى تجميد ما وقّعه من اتفاقيات مع مصر.
وفي الحالتين تتكبد القاهرة خسارة ما لم تقم باستدارة عاجلة تضبط بها موقفها، خاصة أن حلفاءها في شرق ليبيا بدأوا في النزوح التدريجي نحو تركيا التي تتبنى نهجا سياسيا مختلفا يمكّنها من نسيان تجاوزات دورها العسكري، حيث نجحت في جمع الكثير من الأطراف على طاولتها، ما يساعدها على توسيع دورها الفترة المقبلة.