وحده حكيم ظل غريبا

مقبرة ورجل مسجى وقبر مفتوح.. تصدر ضحكة عند رأس المتوفى، ومع الضحكة يختلط صوت آخر يقول “ربّي يرحمك يا بوالحكم”.
في تونس لدينا حساسية من مثل هذه الألقاب؛ “أبوفلان وأبوعلّان”، ونحن لم نكن بعيدين عن الشعانبي.. كنا على مسافة طلقة.
فوق الجسد المسجّى فرش علم تونس وعلم سوريا.. كل هذه التفاصيل لها دلالات لا تبعث على الطمأنينة، هربت من مخاوفي ومن كرهي وعدائي للملقبين بـ”أبي فلان”، ورحت أراقب العلمين التونسي والسوري، وطمأنت نفسي لغياب راية العقاب.
إلا أن المشهد الخالي من المسؤولين، والمنقوص من الكتّاب والفنّانين.. أمر يبعث على الريبة، لعل خبرا بلغهم عن أذى متوقّع. أو لعلّه موقف مبدئي، أو اتقاء لشبهة.
ما كان لهم أن يتجنبوا الشبهات، فالفن شبهة قديمة متكررة، واحتياط مبالغ فيه في هذا الموكب الصغير الذي يخيم عليه الحزن.
ما سرّ هذا الغياب الشامل؟
قد يكون بيننا مخبر ينتحل الحزن وتلاوة أدعية الدفن وطقوسه.. وخفت أن أتوجه بالسؤال عن هوية المسجّى تحت علمي تونس وسوريا، فأحمل أنا شُبهة المخبر..
التزمت الصمت، ورحت أجول بنظري في أنحاء المقبرة؛ قبور نائمة وأشواك وأكياس بلاستيكية تحوم في الفراغ.. في تلك اللحظة أيقظني من شرود الذهن صياح أحدهم منبها “لا تدوسوا ذلك القبر فهو لأحد شهداء الثورة”. تدخل صوت آخر صائحا “بلْ قل: قتلى حادثة الثورة”، في انتظار صدور القائمة وتحقق الشعارات التي رفعوها والمطالب التي وضعوها قبل وضعهم في هذه المقبرة التي تملؤها الأشواك وأكياس البلاستيك المتطايرة.
راح رجل بلحية بيضاء ولَكْنة مشرقيّة يعدّد خسائر فقدان المسجّى ويعاتبه على رحيله المفاجئ، ويخبره أن سوريا كلها تبكيه، ولم يقل شيئا عن حزن تونس ولا لمّح لظلمها، ثم سمّاه بعد أن واريناه التراب.
المسجّى، هو حكيم مرزوقي، بذرتنا التي زرعت نفسها في دمشق، فأينعت وطرحت ثمرا كثيرا هناك. شهدت بنفسي ذلك النّبت في حدائق الشام ومسارحها؛ في القباني، وفي مركز أبورمّانه، وفي نادي الشعر بقبو نزل الفردوس، وسمعت صداه في مقهى الروضة ومطعم فريدي..
بعد ثلاثين ربيعا، عاد لنا حكيم ذات شتاء. أعلم أن الزهور لا تتفتّح في الشتاء، وأعلم أنه جاء في السنوات السّباخ. ولكن لم أفهم حتى بعد أن واريناه التراب لماذا حكيم بالذات؟
كل الذين عادوا من دمشق نالوا فرصتهم؛ من شوقي الماجري في مملكة النمل، إلى هؤلاء الذين حكموا في مملكة السنوات العشر. وحده حكيم ظل غريبا، لم يصنع مسرحا، ولم يكتب في صحيفة تونسية، هو الذي كتب في عديد الصحف العربية، من “بعث” الأسد إلى “هدف” جورج حبش. ولم ْيحْتفَ به “هنا” مثلما احتفى به “هناك” العرب والشّركس والأكراد والروم والتركمان.
كان بيننا وكنّا نعرفه جيدا، وكان يُطلّ علينا من نوافذه في جريدة “العرب” اللندنية، مذكرا أنّه يكتب من تحت قوس باب الخضرا في تونس القديمة.
آه يا تونس الخضراء، لم تهده من الأخضر إلاّ ذلك اللحاف المطرز بالآيات القرآنية. وها هو الآن غريبا مدفونا في مقبرة غريبة ومدينة غريبة.