همّة علماء الفضاء تتعلق باكتشاف عطارد

الصاروخ أريان 5 يقلع من مركز غويانا للفضاء حاملا مسبارا مزدوجا، ليصل في غضون السنوات السبع المقبلة إلى وجهته في كوكب عطارد.
الاثنين 2018/11/05
العلماء يهنئون بعضهم

لم تتوقف جهود العلماء والباحثين على اكتشاف الأرض واستغلال ثرواتها، ثم البحث في المحافظة على استدامتها ككوكب صالح للحياة البشرية، ومع ذلك فهم يحاولون استكشاف الأجرام السماوية الأخرى كالقمر والشمس والمريخ باستمرار، وها هم اليوم يتقدمون لاكتشاف كوكب عطارد دون أن تثنيهم صعوبات المغامرة.

كورو (غينيا الفرنسية)- يشق بريق من الضوء ظلمة الليل الاستوائي، ويهدر صوت كالرعد بين جنبات الغابة الساكنة ويمتلئ الهواء بالدخان… إنها الساعة 10:45 في غينيا الفرنسية، وقد أقلع الصاروخ أريان لتوه من مركز غويانا للفضاء تاركا وراءه أذيالا من النيران.

ويخترق الصاروخ الهواء منطلقا نحو عنان السماء في صوت صاخب حتى يكاد يختفي، فلا تبدو منه سوى كرة صغيرة من اللهب تتلألأ في الظلام. وبعد بضع دقائق على كوكب الأرض، تصفق مجموعة من العلماء في فرحة ويتبادلون التهاني والأحضان.

وتختلف هذه الرحلة الفضائية التي انطلقت لتوها عن أي رحلة أخرى سبق وأن أقلعت من أعماق تلك الغابة المطيرة التي تقع في أميركا الجنوبية، حيث تنطلق كل عام عشرات الصواريخ من القاعدة في مركز غويانا للفضاء. فالصاروخ أريان 5 يحمل هذه المرة شحنة ثمينة، وهي مسبار مزدوج من المقرر أن يصل في غضون السنوات السبع المقبلة إلى وجهته في كوكب عطارد.

وتحمل تلك البعثة الفضائية المشتركة بين وكالة الفضاء الأوروبية (إي.أس.أي) ووكالة استكشاف الفضاء اليابانية (جي.أي.اكس.أي) اسم “بيبي كولومبو”، وهي واحدة من أصعب الرحلات الفضائية التي تطلقها وكالة الفضاء الأوروبية حتى الآن، كما أنها تعتبر أعلاها تكلفة، نظرا لأن ميزانية هذا المشروع العلمي العملاق تزيد عن ملياري يورو (2.3 مليار دولار).

العمل يبدأ في المختبرات
العمل يبدأ في المختبرات

ويقول يوهان ديتريش فورنر مدير وكالة الفضاء الأوروبية مبتسما، “عندما يفهم الناس ما الذي نفعله هنا، سوف يتملكهم شعور بالانبهار”. ويعرف فورنر أن أوروبا وبقية دول العالم سوف تغض الطرف عن هذه الرحلة الفضائية، ولا سيما بسبب ارتفاع تكلفتها. وتعرف البشرية عن كوكب عطارد أقل مما تعرفه عن بقية الكواكب في مجموعتنا الشمسية.

وقد وصلت معدات من صنع الإنسان مرتين فقط من قبلُ إلى عطارد، ففي عام 1974 استطاع المسبار الأميركي “مارينر 10” ترسيم نحو 45 بالمئة من سطح الكوكب بعد أن عبره ثلاث مرات، وفي عام 2011، أمضى المسبار “ماسنجر” التابع لوكالة علوم الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) أربعة أعوام في التحليق في مدار حول الكوكب.

والآن، تريد وكالة الفضاء الأوروبية أن تعرف المزيد عن هذا الكوكب، وكان من المقرر أن تنطلق هذه البعثة قبل خمس سنوات، ولكنها أرجِئت بسبب صعوبات تتعلق بتطوير أجهزة بالغة التعقيد.

ويقول فورنر، “إنها ليست مشكلة كبيرة.. لا شك أن الإرجاء هو أمر سيء، ولكن الأمر المهم في ما يخص هذه البعثة هو أن نتيقن من أن التكنولوجيا المستخدمة يعتمد عليها بنسبة مئة بالمئة”.

ويكمن التحدي الرئيسي أمام هذه البعثة الفضائية في أن الاقتراب من كوكب عطارد يشبه السفر داخل فرن، حيث أن الحرارة المنبعثة من الشمس يمكن الشعور بها بشدة على الكوكب الذي تصل درجة الحرارة على سطحه إلى قرابة 450 درجة مئوية في يوم عادي.

قمران صناعيان في مسارين مختلفين لتوسيع الاكتشافات
قمران صناعيان في مسارين مختلفين لتوسيع الاكتشافات

وسوف ترتفع درجة حرارة القشرة الخارجية للمسبار بيبي كولومبو إلى أكثر من 360 درجة مئوية أثناء دورانه حول الكوكب، وإن كانت المعدات بالغة الحساسية داخل المسبار لا يمكنها أن تعمل سوى في درجات حرارة لا تزيد عن أربعين درجة مئوية. وكان هذا هو التحدي الرئيسي الذي يجابه العلماء.

وحتى قبل أن تصل المركبة الفضائية إلى كوكب عطارد، فإن هناك البعض من المخاطر التي تعترض طريقها. فإذا ما تركنا جانبا مدى صعوبة عملية انطلاق المركبة، فإنه يتعين عليها أن تقطع تسعة مليارات كيلومتر، وهي مسافة تزيد بواقع ستة أضعاف عن المساحة بين الأرض والشمس. وتصل السرعة القصوى للمركبة إلى ستين كيلومترا في الثانية، بما يمثل 216 ألف كيلومتر في الساعة.

ومن أجل إبطاء سرعته، لا بدّ أن يمر المسبار المزدوج بجوار الأرض في عام 2020 ثم يعبر مرتين بجانب كوكب الزهرة، قبل أن يمرّ بجانب كوكب عطارد نفسه ست مرات. وإذا ما تجاوزت المركبة السرعة المقررة، فمن الممكن أن تذوب بفعل حرارة الشمس بدلا من الدخول في مدارها المستهدف حول كوكب عطارد.

ويقول إيكارد سيتيلماير مدير المراقبة الأرضية والملاحة والعلوم بشركة أيرباص للدفاع والفضاء إن “المسألة تتعلق بخفض السرعة إلى معدل ثابت يبلغ 3.4 كيلومتر في الثانية”.

وإذا ما كللت رحلة المسبار بالنجاح، فسوف ينفصل قمران صناعيان من جسمه الرئيسي بمجرد وصوله إلى عطارد، وسوف ينطلق القمران في مسارين مختلفين لاستكشاف الكوكب.

وسوف يقوم القمر الصناعي “ميركوري بلاتيناري أوربيتر” التابع لوكالة الفضاء الأوروبية باستكشاف ورسم خارطة لسطح الكوكب، فيما سيقوم القمر الصناعي الياباني “ميركوري ماجنيتوسفيريك أوربيتر” بقياس المجالات المغناطيسية على الكوكب.

ورغم أن هذه المهمة الفضائية قد بدأت لتوها، فإن فورنر يخطط مع فريقه بالفعل للرحلة القادمة. ومن المقرر أن ينطلق مسبار الفضاء “جوس” إلى كوكب المشترى عام 2022، فيما يجري بالفعل إعداد خطط لبعثات فضائية أخرى في ثلاثينات القرن الجاري.

ويؤكد فورنر أن التعاون مع البلدان الأخرى هو مسألة مهمة، موضحا أنه “فقط عن طريق التعاون بين الدول، يمكننا تنظيم رحلات فضائية لا تستطيع دول بمفردها أن تتولى تمويلها”.

وتعمل الدول الـ22 الأعضاء في وكالة الفضاء الأوروبية عن كثب سويا، وتتعاون كذلك مع وكالة علوم الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) ووكالة الفضاء الروسية “روسكوسموس”، وكذلك مع وكالة استكشاف الفضاء اليابانية مثلما هو الحال مع المسبار “بيبي كولومبو”.

ولكن ليست الدول وحدها هي التي تتطلع إلى النجوم، فالشركات الخاصة بدأت هي الأخرى تستكشف الفرص التي يتيحها الفضاء الخارجي، فعلى سبيل المثال، تريد شركة “سبيس اكس” التي يمتلكها رجل الأعمال الأميركي إيلون موسك أن تجعل الحياة على الكواكب الأخرى ممكنة.

سرعة تفوق الخيال
سرعة تفوق الخيال

ومن جانبه قام جيف بيزوس صاحب موقع “أمازون” الشهير للتجارة الإلكترونية بتأسيس شركة “بلو أوريجن” لبحث فرص الأعمال المتاحة في الفضاء. ويقول فورنر إن “المنافسة هي التي تدفعنا.. فهذا الأمر مثلما يحدث في عالم الرياضة، فإنه يحدث أيضا في الفضاء”، مضيفا “أعتقد أن البشر سوف يصلون إلى المريخ”.

ولكن فورنر ليس متحمسا لفكرة استعمار البشر للكواكب الأخرى. ويرى فورنر أن “الأرض هي مكان أجمل بكثير بالنسبة إلينا كي نعيش فيها بدلا من العيش داخل صناديق من الصفيح على سطح كوكب أو قمر”.

وبالنسبة إلى فورنر، فإن “الأولوية القصوى بالنسبة إلينا لا بد أن تتمثل في إنقاذ كوكبنا”، وهو يأمل أن تسهم الاستكشافات التي سوف تقوم بها بعثة بيبي كولومبو في تحقيق هذا الهدف.

20