هل يهدر الدعم الحكومي للسلع والمحروقات ثروات ليبيا

الحكومة الليبية تتأرجح بين تحويل الدعم السلعي إلى نقدي أو صرف كوبونات وقود شهرية.
الثلاثاء 2023/11/28
ملف تهريب المحروقات المدعمة يؤرق الحكومة الليبية

طرابلس - بينما لاتزال الحكومة الليبية تتأرجح بين تحويل الدعم السلعي إلى نقدي يصرف للمواطنين، أو صرف كوبونات وقود شهرية بدلا منه، يبدو الشارع الليبي قلقا من المسألة وينقسم حولها إلى فئتين، أولى كُبرى تتوقع ارتفاع الأسعار كنتيجة، وتخشى عدم انتظام الحكومة في دفع المقابل النقدي أو الكوبونات، ولهذا ترفض المسألة جملة وتفصيلا، وفئة أخرى أقل ترى ألا حل للقضاء على التهريب وإهدار الثروات إلا في إلغاء الدعم فورا. ولا يتفق الغالبية إلا في تشكيكهم بقدرة الدولة في وضعها الحالي على حماية الدينار.

وفي الوقت الذي تشهد فيه ليبيا حالة نسبية من الهدوء والاستقرار الاقتصادي وبعض أعمال التنمية والبناء في المدن، بدأت تراود الكثير من النشطاء هواجس حول عوائق اقتصادية في الأفق بدأ بعضها في الظهور بملامح مقلقة مسّت قيمة الدينار في السوق الموازية للأسعار.

رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة كشف مؤخرا عن نوايا تبدو حقيقية هذه المرة لإلغاء دعم المحروقات

ومنذ أن خفّضت ليبيا سعر صرف الدينار بنسبة 70 في المئة مطلع 2021، لم يشهد تذبذبا في قيمته خارج أسوار المصرف المركزي مثل ما يحصل هذه الأيام. فبعد أسعار تتراوح بين 5.05 و5.09 مقابل الدولار الأميركي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بدأ الدينار في الارتفاع منذ نحو شهر، بشكل غير متوقع، ولأسباب غير مفهومة في الشارع، خاصة مع انتظام الصادرات النفطية التي تضمن عادة استقرار الأسعار الرسمية والموازية أيضا.

وفي الوقت الذي يستقر فيه السعر الرسمي فعلا بحدود 4.85، وصل السعر الموازي في أولى ارتفاعاته إلى 5.70، واستقر مؤقتا، ثم عاود الصعود فوق حاجز 6 دنانير لأول مرة في العقد الحالي، وقفز إلى 6.30، وعاود النزول ثانية بتدرج ووصل إلى 5.52، ثم صعد ثانية إلى 5.85، ولا يزال في وضع يومي متغير، وبنسب مقلقة ومؤثرة.

وذلك ما أثار تساؤلات بشأن سر هذا التذبذب، وما هو السعر التوازني الذي قد يستقر عنده السوق؟ وماذا فعلت السلطات الليبية لأجل الحفاظ على قيمة عملتها وحماية السوق المحلي من تضخم بدأ يظهر في السلع الغذائية وقد يطال أخرى؟

ويرى الخبير الاقتصادي إبراهيم السنوسي أن الأسباب الرئيسية لارتفاع العملات الأجنبية أمام الدينار تتمثل في “مجموعة من التراكمات لمعالجات وقتية أو آنية وضعها مصرف ليبيا المركزي خاصة بعد تغيير سعر الصرف”.

ويفسّر الأمر قائلا “المركزي وضع معالجاته في توفير العملة الصعبة داخل ليبيا من خلال بطاقات العشرة آلاف، وهي بطاقات بنكية تصرف للمواطنين وتجيز لهم شراء 10000 دولار في السنة من البنوك التجارية بالسعر الرسمي، وسحبها بالبطاقة خارج البلاد. وفي العادة يتم إدخال أغلب هذه العملات إلى السوق الداخلي”.

وكما يظهر في السوق السوداء فإن أغلب هذه العمليات يتولاها تجار يدفعون عمولات لأصحاب البطاقات، مقابل استخدامها والاستفادة من الفرق بين السعرين: الرسمي والموازي.

ووفق السنوسي، فقد “تغيرت مؤخرا عمولة البطاقات من 2000 دينار تنازلا حتى وصلت إلى معدلات لا تشجع على هذا الاستثمار من الطرفين، ما قلل من عرض النقد الأجنبي”.

وفي سوق المشير وسط طرابلس (السوق الرئيسي للعملات) ينتظر تجار العملة الصغار والزبائن قبل ظهيرة كل يوم اجتماع كبار التجار والمضاربين لتحديد أسعار اليوم. ومن داخل السوق، لا يوافق أحد التجار، هشام .م، على تحميلهم والمواطنين مسؤولية قلة المعروض من العملة الأجنبية وبالتالي ارتفاع أسعارها أمام الدينار.

ويرجع هشام قلّة العرض إلى إبطاء المصارف التجارية إجراءات شحن بطاقات العملة، معلقا “كانت تشحن بالعملة الصعبة خلال ساعة، واليوم يستغرق شحنها 50 يوما، وهذا ما تسبب بتعطيل انسياب العملات للداخل”.

الدعم لا يكفي

ولا ينفي هشام وجود مضاربات يقوم بها تجار مع بعض مسؤولي المركزي والمصارف التجارية. وللوهلة الأولى قد تظن أن لمكان سوق المشير علاقة بالأمر، فهو يقع وراء مقر المركزي مباشرة، ومن هذا المحيط تتحدد قيمة الدينار وبالتالي أسعار كل شيء في دولة بترولية ذات اقتصاد ريعي تستورد أغلب السلع من الخارج.

ومن المصرف المركزي، يكشف مصدر عن صراعات تدور هناك، أبرزها ما استجدّ بين المحافظ الصديق الكبير، ورئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، حول حجم الإنفاق الحكومي الضخم الذي يرفضه الكبير، وأيضا الخلاف الحاصل حول تعطيل الكبير لبعض الاعتمادات المستندية الخاصة ببعض كبار التجار، وهو فعل قابلوه بالعزوف عن إيداع الأموال في المصارف، بما زاد من تعطيل فتح الاعتمادات.

وفي تقدير المصدر، فإن الخطة البديلة التي لجأ إليها المركزي مؤخرا عبر فتح بطاقات للتجار بقيمة 100 ألف دولار “لم تفلح في كبت الدينار الجامح” على حد وصفه، ولهذا يتوقّع المزيد من الارتفاع.

ولأجل ذلك، يستغرب السنوسي من استمرار رفض المركزي صرف السيولة الأجنبية للبنوك التجارية بدل دائرة الصرف المرتبطة بالسوق السوداء، مستهجنا استمرار إشارة المحافظ إلى وجود قيود على إدخال النقد الأجنبي إلى ليبيا.

وبدأت قصة القيود سنة 2013 نتيجة استيلاء مجموعة متشدّدة في سرت على ما يقارب 54 مليون دولار من أموال المركزي كانت محولة إلى المدينة، مما ساعد المجموعة لاحقا على تقوية شوكتها والانضمام إلى تنظيم “داعش”.

ومع عدم إدخال العملات الصعبة بشكل رسمي إلى الدولة منذ 2014، وتحول السوق الموازية إلى المصدر الوحيد لها داخليا، يؤكد السنوسي “عدم وجود قيود واضحة من الجهات الدولية لتوريد العملة للمصرف المركزي”، مستدركا بالقول “المركزي لم يعلن عنها رسميا لا عبر مناشير ولا بيانات صحفية، ومع هذا فهي تُطَبَّق، وها قد أوصلتنا إلى مرحلة لا يسيطر فيها المركزي على العملة”.

في سوق المشير وسط طرابلس (السوق الرئيسي للعملات) ينتظر تجار العملة الصغار والزبائن قبل ظهيرة كل يوم اجتماع كبار التجار والمضاربين لتحديد أسعار اليوم

وفضلا عن ذلك، يورد السنوسي أسبابا إضافية لانخفاض الدينار، منها ما وصفه بـ”السياسات الحكومية غير الرشيدة المتعلقة بزيادة الإنفاق العام، وخاصة الاستهلاكي غير التنموي في بندي: المرتبات ودعم المحروقات”.

وبشكل يدعو إلى الاستغراب، تمثل المرتبات نسبة 62 في المئة من حجم الإنفاق العام، بحسب بيانات المركزي الدورية، أما المحروقات فتمثل هاجسا اقتصاديا آخر يُندر بخطر مُقبل على الاقتصاد الليبي.

وتشير مؤشرات المركزي إلى أن دعم المحروقات وحده شكل 23 في المئة من حجم الإنفاق في العشرة شهور الأولى من العام الحالي، وبواقع 16.4 مليار دينار.
وتعتبر ليبيا ثاني أرخص دولة في سعر الوقود بعد فنزويلا، بـ150 درهما (3 سنتات أميركية) للتر، وهو “سعر تشجيعي للتهريب” كما يصفه المحلل الاقتصادي عصام الجبالي.

ويقول الجبالي “هذا ما يحصل في الواقع، خاصة بعد انهيار الدولة عام 2011، فقد استغلت عصابات التهريب الوضع الاستثنائي والفساد المستشري، وتنامي نطاق ترويجها المحروقات الليبية إلى أن وصل إلى أوروبا”.

ويبدو أن العملية العسكرية التي أطلقتها الحكومة في مايو الماضي واستخدمت فيها الطيران المسير لضرب أوكار العصابات غرب طرابلس لم تنل النجاح المطلوب، كما يشير الجبالي، مستدلا بتغيير الحكومة نهجها في المكافحة.

وكان رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة قد خرج بتصريح في آخر اجتماع لمجلس الوزراء كشف فيه عن نوايا تبدو حقيقية هذه المرة لإلغاء دعم المحروقات.

7