هل يقبل البريطانيون طلاقا مكلفا مع أوروبا

عندما يقع الطلاق فإن كل طرف من طرفي العلاقة يتمتع بحرية أكبر في إدارة شؤون حياته بعيدا عن القيود التي تفرضها العلاقة مع الطرف الآخر، والالتزامات التي تترتب عليها. وهذا بالتحديد ما يريده الذين يطالبون بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يريدون أن تتمتع الحكومة البريطانية بحرية أوسع في إدارة كافة أمورها بعيدا عن كل ما تفرضه عليها عضوية الاتحاد الأوروبي من التزامات يرون أنها تكبل يدي حكومة بلادهم.
ويبدو هذا جليا في موضوع المهاجرين الأوروبيين الذين تحقّ لهم الإقامة والعمل بلا قيود في بريطانيا بسبب عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وهو وضع يرفضه الفريق الذي يسعى لخروج بريطانيا من الاتحاد، ومن أبرز قياداته بوريس جونسون، عمدة لندن السابق، الذي يطالب بنظام بديل لقبول المهاجرين يشابه نظام النقاط المتبع في أستراليا. ويعتمد هذا النظام على تقييم المهاجرين حسب عدة عوامل، مثل التعليم والعمر والخبرة وغيرها، ثم يتم اختيار الحاصلين على أعلى النقاط ومنحهم فرصة العمل والإقامة في بريطانيا.
يمضي أعضاء الفريق الداعي إلى خروج بريطانيا من الاتحاد في رسم صورة أفضل لمجتمعهم بعد أن تتخلص بريطانيا من أعباء علاقتها مع أوروبا، إذ بالإضافة إلى التخلص من مشكلات المهاجرين الأوروبيين الذين يتدفقون على بريطانيا بلا قيود، سوف تتوقف بريطانيا عن دفع مبلغ 350 مليون جنيه استرليني إلى الاتحاد الأوروبي كل أسبوع، ولن تلتزم الشركات البريطانية بالقوانين والقواعد الأوروبية، ويمكن لبريطانيا أن تعقد صفقات تجارية مع مختلف دول العالم، خاصة القوى الصاعدة مثل الصين والهند، تضمن لها مصالحها الاقتصادية. غير أن التدقيق في ملامح هذه الصورة يجعلها تبدو مختلفة كثيرا عما يقدمه مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد. صحيح أن بريطانيا دفعت نحو 17.8 مليار جنيه لميزانية الاتحاد الأوروبي في عام 2015، لكن صحيح أيضا أنها استردت نحو 4.9 مليار جنيه استرليني من هذه الأموال، كما أنها حصلت من الاتحاد على دعم لقطاعات مختلفة، مثل القطاع الزراعي، بمبلغ 4.4 مليار جنيه.
بريطانيا بحاجة إلى صياغة علاقة جديدة مع السوق الأوروبية المشتركة إذا قررت الخروج، وهنا يبرز سؤال هام بلا إجابة واضحة عند المعسكر المطالب بالخروج: ما هو شكل هذه العلاقة؟
السوق الموحدة
في كل الأحوال لابد لبريطانيا من المساهمة في ميزانية الاتحاد إذا أرادت الاستمرار في الاستفادة من السوق الأوروبية الموحدة التي تمثل أكبر تجمع اقتصادي في العالم. وعلى سبيل المثال فإن النرويج التي ليست عضوا بالاتحاد الأوروبي، تدفع ما يعادل نحو 90 بالمئة مما تدفعه بريطانيا من ميزانية الاتحاد، بالنظر إلى حصة الفرد في كل من البلدين، لكي تستفيد من حق التجارة بلا قيود مع السوق الموحدة.
ونظرا لأن بريطانيا لا يمكن أن تكون بمعزل عن هذه السوق، التي تستورد منها أكثر مما تصدر إليها، فإنها بحاجة إلى صياغة علاقة جديدة معها إذا قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهنا يبرز سؤال هام بلا إجابة واضحة عند المعسكر المطالب بالخروج من الاتحاد: ما هو شكل العلاقة الجديدة مع السوق الأوروبية إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد؟
هناك أمثلة مختلفة لمثل هذه العلاقة مع السوق الأوروبية، ومن أبرزها المنطقة الاقتصادية الأوروبية التي تضم دولا مثل النرويج وإيسلندا. وتتيح هذه المنطقة لأعضائها حرية التجارة مع السوق الأوروبية على الرغم من بقاء هذه الدول خارج الاتحاد الأوروبي، وهو وضع مشابه لسويسرا التي اختارت أن تبقى خارج الاتحاد الأوروبي، لكن أبرمت اتفاقيات لضمان حرية التجارة مع السوق الأوروبية.
لكن هذه الدول تتحمل أعباء بسبب هذا الوضع؛ فعليها المساهمة في ميزانية الاتحاد الأوروبي حسب عدد سكانها وفق ما يتم الاتفاق عليه مع الاتحاد وعليها القبول بكافة القواعد والإجراءات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على السلع والخدمات التي يتم التعامل بها في السوق الموحدة. ولا تشارك هذه الدول، النرويج وإيسلندا وسويسرا، في صياغة ووضع القواعد والإجراءات لأنها ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
بمعنى آخر على هذه الدول أن تدفع مساهمتها المالية في ميزانية الاتحاد الأوروبي، وتقبل ما يقرره دون أن يكون لها صوت في إدارة شؤون الاتحاد. وهذا ما ترفضه بريطانيا تماما، التي حرصت عبر تاريخها على أن يكون لها تأثير واسع على الطريقة التي تدار بها أوروبا سياسيا واقتصاديا.
بالإضافة إلى ما سبق فإنه في حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستكون خارج اتفاق التجارة الحرة بين الاتحاد ودول أخرى مثل كندا، وخارج اتفاق الشراكة المفترض بين الاتحاد والولايات المتحدة، أو أي اتفاق يمكن أن يعقد مستقبلا بين الصين وبين الاتحاد. كما أن الاستثمارات الخارجية التي تتدفق على بريطانيا ستتأثر بلا شك بخروجها من السوق الأوروبية.
|
إذ أن من يقمْ مصنعا للسيارات مثلا في بريطانيا يستطعْ أن يصدر لكل الدول في السوق الموحدة بلا قيود أو عقبات، أما بخروج بريطانيا من هذه السوق فسوف تكون هناك رسوم جمركية على أي صادرات أو واردات من الدول الأوروبية الأخرى، وستصبح السوق المتاحة أمام المستثمرين هي السوق البريطانية فقط، وهو ما سيحد كثيرا من الإقبال على الاستثمار في بريطانيا.
وإذا كان من المنتظر أن تتراجع الاستثمارات الخارجية إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن ترتفع تكاليف الواردات مع خضوعها لرسوم جمركية، فمن الطبيعي أن يتوقع أغلب الاقتصاديين تراجع النمو الاقتصادي، وتراجع فرص العمل إذا صوت البريطانيون لصالح الانفصال.
انفصال مكلف
من ثم، كان تحذير رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يسبب نقصا حادا في الإيرادات العامة يتراوح ما بين 20 و40 مليار جنيه إسترليني سنويا، وذلك حسب تقديرات معهد الدراسات المالية، وهذا التراجع يجب تعويضه إما بزيادة الضرائب وإما بتخفيض النفقات العامة.
وهذا يعني حسب ما قال كاميرون، أن الحكومة لا تضمن استمرار دعمها لمعاشات التقاعد، أو تمويلها للتأمين الصحي، بنفس المستوى القائم حاليا. وبالتالي، لم يكن مستغربا أن يصف جورج أوزبورن، وزير الخزانة البريطاني، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأنه سيكون “صدمة اقتصادية”، وسيؤدي إلى خسارة أكثر من 4 مليارات جنيه إسترليني بالنسبة إلى أسكتلندا وحدها.
وهنا تبرز تكلفة سياسية أخرى لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي أن أسكتلندا قد ترغب في الانفصال عن بريطانيا لأن أغلب الأسكتلنديين يؤيدون بقاء بريطانيا في الاتحاد، ويبرز صوت الوزيرة الأولى في أسكتلندا، نيكولا ستيرجون، زعيمة الحزب القومي الأسكتلندي، كأحد أبرز المدافعين عن العلاقة مع أوروبا، إذ أن مشروع الوحدة الأوروبية ضمن للقارة العجوز أطول فترة من السلام والاستقرار في تاريخها الحديث، كما تقول ستيرجون، وهو مكسب هائل بلا شك.
وتبدو الصورة مشابهة في إيرلندا الشمالية، إذ أن السلام الذي تحقق فيها بعد صراع طويل بين الكاثوليك والبروتستانت قد يكون مهددا إذا انفصلت بريطانيا عن الاتحاد. وبشكل عام يرى الكثير من الخبراء الأمنيين في بريطانيا أنها أكثر أمانا في ظل تعاونها الأمني مع باقي الدول الأوروبية.
ويبقى القول إن الحديث عن تقييد الهجرة من باقي أوروبا إلى بريطانيا يلقى رواجا بين قطاع من البريطانيين، والتلويح بحرية يمكن أن يحققها الطلاق مع أوروبا يلقى ترحيبا بين البعض، لكن تكلفة مثل هذا الطلاق باهظة لأنه ببساطة لا يوجد بديل واضح لتخلي بريطانيا عن السوق الأوروبية الموحدة، ولهذا استجابت الأسواق بسرعة وتراجع سعر الجنيه الاسترليني. ويبقى الخيار للناخب البريطاني: يمكنه أن يختار الانفصال عن أوروبا، لكن عليه أن يتحمل التكاليف الاقـــتصادية الباهظة لهذا الاختيار.
كاتب مصري مقيم في لندن