هل هناك أوقات محددة للكتابة

جميع الأوقات صالحة للكتابة، لكن لكل كاتب وقته الخاص به. فهناك الليليون والنهاريون والصباحيّون والمسائيون. وهناك من تكون كل الأوقات متساوية عندهم. يكفي أن تنقدح القريحة بما هو جميل ومثير وعجيب لكي يشرعوا في كتابة القصيد أو النص الجديد. ولعل هذه كانت حالة أبي العلاء المعري الذي كان يعيش في ظلمة دائمة منذ الصبا.
وفي عزلته في معرة النعمان التي عاد إليها خائبا من بغداد التي كانت تعج بالشعراء والكتاب الباحثين عن الثروة والشهرة، لم تكن تشغله عن الكتابة والتأمل لا عائلة ولا عمل. لذا عاش حتى النهاية منصرفا إلى ذلك انصرافا كليا فلا تمييز عنده بين الليل والنهار. أما طه حسين فكان يميز بينهما لأنه كان يهمس كل يوم لزوجته سوزان قائلا إنه يرى بعينيها الخضراوين.
وأظن أن “شيطان الشعر” كان يوقظ أمرؤ القيس و”الطيور في وكناتها”، وأنوار الفجر بالكاد ترى على الآفاق. وفي السكون الصحراوي العميق، تتدفق الكلمات والصور، ويرقص الشاعر على أنغامها، مستحضرا صهيل الخيول، وصليل السيوف في المعارك الضارية، وتأوهات النساء في لحظات الشهوة والحب. وعندما يطلع النهار، ويشتد لهيب الشمس يمضي إلى ظلال الواحات ليلهو مع الأصحاب، ويشرب معهم على نخب المحبة، وعشق النساء والكلمات.
أما المتنبي فقد كان ينام الليل مطمئنا، هانئ البال لأنه كان قادرا على اصطياد شوارد اللغة التي تستعصي على شعراء زمنه فيبيتون لياليهم يعذبهم السهاد، ويضنيهم البحث عنها. وفي النهاية يضيعون في مجاهلها فلا يفوزون إلاّ بما لا يثير إعجاب الناس، ولا يضيف للشعر ما يمكن أن يزيده جمالا ونضارة وعمقا.
الشاعر الفرنسي بول فاليري اشتهر بالكتابة في الصباح الباكر. يفعل ذلك حال تركه الفراش في تلك الساعة الفاصلة بين ظلمة الليل وإشراقة النهار
وكم من أعمال عظيمة في الشعر أو في النثر أو في الفلسفة كتبت على ضوء قناديل الزيت، أو الشموع في ليالي قرطاج، والإسكندرية، وأثينا. وكم من شاعر أو مفكر في هذه المدن كان يقول للناس: أعطوني الليل، وخذوا النهار فأنا أعيش عكس أوقاتكم، وأنام عندما تصحون..
وكان الكاتب الألماني توماس يحب الكتابة في الصباح. ولا يشرع في ذلك إلاّ بعد أن يحلق لحيته، ويرتدي بدلته الأنيقة. ومثله التزم نجيب محفوظ بنظام عمل شديد الصرامة. وقبل أن يحال على التقاعد، كان يخصص يوميا 6 ساعات للكتابة، باستثناء الخميس والجمعة. وكان يفعل ذلك في الشطر الأول من الليل. أما بعد التقاعد فقد كان ينصرف إلى الكتابة من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا.
واشتهر الشاعر الفرنسي بول فاليري بالكتابة في الصباح الباكر. يفعل ذلك حال تركه الفراش في تلك الساعة الفاصلة بين ظلمة الليل وإشراقة النهار. في هذا الوقت الذي يوحي بالولادة، كتب عمله ذائع الصيت “سهرة مع السيد تاست”.
كما كتب “كراساته” التي ضمّنها أفكاره الصباحية التي كان يسميها “إنبجاسات الصباح”، ومن خلالها انتقد الحضارة الأوروبية التي انحرفت في رأيه عن مسارها الإنساني، وأفقدتها الحروب المتتالية، والتنافس بين دولها روحها وصوابها. وكان فاليري يقول إنه لا يرى نفسه، ولا العالم من حوله بوضوح وصفاء إلاّ في إشراقة الصباح. فإذا ما انتهى من الكتابة، لا يعنيه أن يعيش نهاره كسولا، ومتبلد الذهن، ومقفر العقل من الأفكار المدهشة والجميلة.