هل مصر صاحبة تأثير في السودان

القاهرة عدلت طريقة تعاملها مع الخرطوم والتفتت نحو توسيع أطر التعاون فلم يعد السودان مشكلة أمنية كما كان خلال حكم البشير لكنه تحول إلى عنصر استراتيجي متعدد الوجوه السياسية والاقتصادية والثقافية.
الاثنين 2021/11/01
من الضروري أن تكون مصر عنصرا أكثر تفاعلا حيال الأزمة

تنقسم نظرة السودانيين لمصر إلى قسمين، أحدهما يراها الشقيق والصديق والملاذ، والآخر قوة احتلال سابقة ولا تزال تريد الهيمنة على البلاد. وهما نظرتان غير دقيقتين وينحدر تقدير كليهما من الخبرة والانطباعات ومن معلومات صحيحة أو مغلوطة، بما جعلها تبدو صاحبة تأثير محدود في السودان.

ذهبت بعض الآراء إلى أن القاهرة قامت بهندسة الانقلاب العسكري الأخير ودفعت قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى إجراءات تقويض دور المكون المدني في السلطة، وحاول هؤلاء تحميلها جزءا من مسؤولية هذه الخطوة وتبعاتها الغامضة، وطالبها آخرون بوساطة لتسوية الأزمة سياسيا.

لم تشهد العلاقات بين مصر والسودان استقرارا طويلا أو توترا دائما، ففي كل الأنظمة التي حكمت البلدين تظهر معالم إيجابية وأخرى سلبية، وصعودا وهبوطا، وتظل المراوحة مستمرة من دون أن تصل إلى قطيعة كاملة أو خصومة ممتدة، فهناك مصالح تربطهما تمنع محاولات تفكيكها من جهات داخلية أو خارجية.

تعلمت مصر من دروس الماضي ونتائج خديعة الانقلاب الذي قام به عمر البشير عام 1989 ألا تضع كل رهانها على قوة واحدة، فبعد إعلانها تأييد الانقلاب في ذلك الوقت اكتشفت وجهه الإسلامي لاحقا وعانت على مدار ثلاثة عقود أكثر مما عانت قبل وبعد البشير وكانت هذه الحقبة قاتمة خلفت وراءها ميراثا من الغضب المتبادل.

مصر يمكن أن تكون صاحبة تأثير كبير في المستقبل وليس محدودا في السودان، إذ ارتفعت وتيرة التنسيق بين النظامين الحاكمين في البلدين، بعيدا عن هويتهما عسكرية كانت أو مدنية

جاء البيان المصري ردا على انقلاب البرهان حمّال أوجه، فلم يؤيد ولم يدن الخطوة، وحث على أهمية الحفاظ على أمن واستقرار السودان وضبط النفس، لأن الأمور غير واضحة ولا أحد يملك الكلمة النهائية في البلاد، ومن مصلحة القاهرة أن تكون مفتوحة على جميع القوى حتى ولو كان هواها يميل ناحية المؤسسة العسكرية، حيث يملك السودان قوة سياسية صلبة تؤثر في الكثير من التطورات.

حرصت مصر على مدار عامين من تجربة السلطة الانتقالية على ألا تكون علاقتها فاترة بالقوى المدنية وحافظت على علاقتها بها، وكانت منتبهة إلى خطورة الانحياز لصف الجيش وحساباته الداخلية في المرحلة الثورية، ومنتبهة إلى نفوذ فلول البشير في المؤسسة العسكرية وتغلغلهم على مدار ثلاثين عاما في مفاصل الحل والعقد.

وكما بدت علاقتها وثيقة بالفريق البرهان رئيس مجلس السيادة بدت وثيقة أيضا مع رئيس الحكومة المعزولة عبدالله حمدوك، ولم تترك مساحة للاجتهادات لتغذية قطيعة محتملة مع القوى المدنية سعت لها بعض الأطراف السياسية المحسوبة على البشير.

يمثل السودان أكثر من دولة جوار لمصر، فهو أحد أهم العناصر التي تؤثر في الأمن القومي من ناحية الحدود البرية المشتركة التي تتجاوز الألف كيلومتر، والبحر الأحمر كممر مائي استراتيجي لها ونقطة العبور الوحيدة إلى قناة السويس، علاوة على أن السودان دولة المصب الثانية مع مصر من بين دول حوض النيل.

أدت هذه المحددات المتشابكة إلى أن يصبح هذا البلد مجالا حيويا واسعا يصعب التفريط فيه أو ترك أحداثه بلا متابعة دقيقة، خاصة أن نمو التيار الإسلامي واحتضان نظام البشير لجماعات متطرفة ضاعف من التهديدات القادمة من السودان، وحوّله إلى دولة من المستحيل تجاهل تفاعلاتها لأنها ترخي بظلالها على مصر مباشرة.

زادت قيمة السودان مع تغير موقفه في أزمة سد النهضة وانسجام تحركات الخرطوم مع القاهرة بعد سقوط نظام البشير، بما حال دون أن تصبح مصر تكافح بمفردها في مواجهة تعنت الحكومة الإثيوبية، ربما لم تحصل على كل ما سعت له، لكن توافق السودان معها منع أديس أبابا من تحقيق المزيد من المزايا في أزمة المياه.

حصد السودان مكاسب من تطور علاقته مع مصر ظهرت تجلياتها في الدعم الكبير الذي حصل عليه الجيش في عملية استرداد منطقة الفشقة مؤخرا، والتي احتلتها القوات الإثيوبية منذ نحو خمسة وعشرين عاما، وأثبتت المناورات العسكرية بين البلدين أهمية تعضيد العلاقات بين الجيشين في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي.

ظهرت التجليات أيضا في ارتفاع مستوى التنسيق والتعاون المخابراتي في ملف الحركات المتطرفة التي تمثل تهديدا للبلدين، ربما لا يزال السودان لم يبدأ معركته الحاسمة ضد هؤلاء بعد، غير أن الفترة الماضية أكدت إمكانية التفاهم حول قاعدة مكافحة الإرهاب بصورة توفر لمصر تأثيرا واسعا داخل السودان بحكم خبرتها في هذه المجال ومعرفتها بخارطة تحركات القوى الإسلامية المتشددة في المنطقة.

تعلمت مصر من دروس الماضي ونتائج خديعة الانقلاب الذي قام به عمر البشير عام 1989 ألا تضع كل رهانها على قوة واحدة

تشير هذه المحطات إلى أن مصر يمكن أن تكون صاحبة تأثير كبير في المستقبل وليس محدودا في السودان، إذ ارتفعت وتيرة التنسيق بين النظامين الحاكمين في البلدين، بعيدا عن هويتهما عسكرية كانت أو مدنية، فالقاهرة لديها مروحة سياسية تستطيع بموجبها التنسيق مع أي من القوى التي ترتبط معها بمصالح حيوية، فما بالنا بالسودان.

عدلت القاهرة طريقة تعاملها مع الخرطوم والتفتت نحو توسيع أطر التعاون، فلم يعد السودان مشكلة أمنية مزمنة كما كان خلال فترة حكم البشير، لكنه تحول إلى عنصر استراتيجي متعدد الوجوه السياسية والاقتصادية والثقافية، وأسهم تغيير هذه النظرة في تطوير العلاقات وأزال التباسات متراكمة ووفر مساحة انفتاح على قوى متباينة.

تغيرت الرؤية في مصر كثيرا عما كانت عليه في الفترة الماضية ولم تتغير في السودان حتى الآن، فلا تزال هناك فئة تتعمد التشكيك في التصرفات المصرية كلما جرى تقديم مقاربة للتعاون أو الوساطة، حيث ترى هذه الفئة في ارتفاع نفوذ القاهرة خطرا على مصالحها، ما جعلها تتعمد عدم مبارحة جملة من العُقد التاريخية التي تفرمل العلاقات.

حاولت مصر تجاوز هذه النوعية من الكوابح وفك ألغاز العقد، وعملت على تخطيها من خلال الحرص على التعاون المؤسساتي العام، وعدم قصره على جهة واحدة، ولم تنخرط القاهرة في الأزمات الداخلية وهي ترى الرياح تسير في اتجاهات متلاطمة، ورغم استدعاء بعض القوى الوطنية لها للوساطة مبكرا، إلا أنها امتنعت وتركت إدارة الأزمة في بداياتها الأولى في يد إثيوبيا والاتحاد الأفريقي.

من الضروري أن تكون مصر عنصرا أكثر تفاعلا في هذه اللحظة، وتتخلى عن عزوفها أو ترددها، وتطرح مبادرة محايدة للحل بين المكونين العسكري والمدني، لأن هناك جهات إقليمية بدأت تحركاتها في مسار الوساطة عمليا، لأن انتظارها حتى تهدأ الأوضاع وتتبين الخيط الأبيض من الأسود سوف يحول دون اتساع نطاق تأثيرها مستقبلا، لذلك تحتاج إلى ما هو أكثر من البيانات والتعليقات المطاطة.

9