هل فات الأوان لتصحّح القوانين مسار العادات في المجتمعات العربية

تشترك البلدان العربية في العديد من العادات والتقاليد، لكنها تشترك أكثر في انتشار العادات السلبية السيئة المتوارثة من جيل إلى آخر. ولا يردع تغليظ العقوبات العادات السلبية خاصة إذا كانت بمثابة عادة معمول بها منذ عقود طويلة في معظم الدول العربية، ما يفتح باب الجدل ساخنا أمام جدوى القوانين لتصحيح مسارات المجتمعات العربية.
بدت بعض العادات الراسخة في المجتمعات العربية أكثر تجذّرا من اقتلاعها بتشديد القوانين أو بإصدار قرارات سياسية عليا. وأثبت استمرارها ونموها أحيانا أن خضوع الكثير من المجتمعات العربية للأعراف والتقاليد أقوى من خضوعها للقوانين الرسمية، ما يعني أن مواجهتها بالتشريعات وحدها لا تكفي.
ويرى خبراء علم النفس الاجتماعي أن أي مواجهة فعالة للعادات الموروثة لدى الشعوب تستلزم توظيف مؤسسات المُجتمع المدني وتدشين حملات تثقيفية وتنويرية لتوضيح سلبية العادات وآثارها على الإنسان والمجتمع.
ويبدو المثال الأوضح في عادة ختان الإناث المنتشرة في الكثير من الدول العربية وعلى رأسها مصر والسودان واليمن، والتي شهدت خلال الآونة الأخيرة تجريما واسعا وتشديدا كبيرا في العقوبات.
وقد وافق مجلس النواب المصري على زيادة العقوبة على مرتكب جريمة ختان الإناث ورفعها من السجن سبع سنوات إلى عشر سنوات بالنسبة إلى المتورط فيها، ومن الحبس عشرة أعوام إلى عشرين عاما في حال وفاة الفتاة بسبب الختان.
والمثير في الأمر أن القانون المصري يجرّم ختان الإناث منذ سنة 1883 باعتباره انتهاكا لجسد الطفل، وتم تعديل التشريع عدة مرات قبل التعديل الأخير، حتى أن العام 2016 شهد تغليظ العقوبة القصوى على مرتكب جريمة الختان من سنتين إلى سبع سنوات.
وفي سلطنة عمان جرى خلال العام الماضي إدخال تعديل على قانون الطفل ليتم اعتبار ختان الإناث جريمة تستوجب السجن ثلاث سنوات، مع مضاعفة العقوبة في حال التكرار.
واقترحت جمعيات نسائية في السودان مؤخرا إدخال تعديلات على تشريعاته تنص على فرض السجن والغرامة على المشاركين في الختان من الأطقم الطبيّة وسحب تراخيص عملهم.
وقام اليمن في العام 2016 بتعديل قانون العقوبات لديه سنة 2016 ليعاقب كل من يقومون بختان الإناث بالسجن لمدة تتراوح بين خمس وسبع سنوات.
وبشكل مشابه شهدت بعض البلدان العربية انتعاشا لظاهرة زواج القاصرات دون سن الـ16، وقيام الوالدين بإجبارهن على الزواج، رغم أن معظم القوانين المعمول بها في العالم العربي تُجرّم ذلك.
الردع بتشديد العقوبة
بات هناك ما يشبه اليقين بأن القوانين القائمة والمستحدثة في معظم الدول العربية التي تستهدف العادات المشينة اجتماعيا غير قادرة وحدها على وقف العادات خاصة في حال ارتباطها بالنساء، ما فتح الباب أمام جدل ساخن حول جدوى القوانين في تصحيح مسارات المجتمعات العربية.
وصار من الواضح أن تشديد العقوبات لا يمثل ردعا حقيقيا لأي فعل مرفوض اجتماعيا، خاصة إذا كان الفعل بمثابة عادة معمول بها منذ عقود طويلة.
وتؤكد دراسة نشرتها دورية “نيتشر هيومان بيهفيير” الدولية في شهر مايو 2019، أن تشديد العقوبات على أي شخص لا تمنع جرما.
وكشفت الدراسة التي أعدها ديفيد هاردينغ رئيس قسم العلوم الاجتماعية بجامعة كاليفورنيا بيركلي في الولايات المتحدة أن سجن المجرمين على سبيل المثال لا يردعهم عن تكرار جرائمهم بعد الإفراج عنهم، كما أنه لا يردع غيرهم من المحتمل تورطهم في جرائم جديدة.
ويرى البعض أن تشديد العقوبات لا يقتلع الظواهر الاجتماعية السلبية، إنما قد يدفع الممارسين لها والمنتفعين منها إلى اللجوء إلى حيل جديدة للهروب من العقوبة، ما يفسر استمرار جرائم التحرش في ظل التشديد المستمر للعقوبات.

فهمي بهجت: يجب الدخول بشكل أعمق في المجتمعات التحتية لتوعيتها
ويعكس الأمر في جوانبه العامة ضعف ثقة المجتمعات في القوانين المعمول بها، اعتقادا بعدم عدالتها من الأساس أو لأن تطبيقها يخضع لنوع من الانتقائية، وهو ما يظهر في لجوء الكثير من المسؤولين في مجتمعات عربية مختلفة إلى الإقرار بالجلسات العرفية والقبول بأحكامها في بعض المناطق على حساب قوانين الدولة الرسمية. ومن هنا ينشأ مفهوم “رخاوة” المؤسسات الرسمية ليصل إلى مستوى قيامها بما هو غير رسمي لتسيير أوضاعها.
ويرى معن السالمي الباحث بكلية الآداب جامعة الموصل أن عدم الاعتراف بالقوانين المدنية ظاهرة مجتمعية لافتة في الكثير المجتمعات العربية.
وقال لـ”العرب” إن هناك بعض الأشخاص في العالم العربي يفضلون الأعراف المعمول بها عشائريا، ولا يقتصر الأمر على أجواء الريف فقط كما يتصور البعض، بل يمتد ليشمل المدن الرئيسية.
ومن المثير أن يمتد رفض القوانين المدنية إلى فئات ومستويات مختلفة من المتعلمين تعليما جيدا، ولا يقتصر الأمر على الجهلاء والأميّين.
وبحسب عصام محمود باحث اجتماعي مقيم بمدينة سوهاج، جنوب القاهرة، فإن هناك أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات يقبلون بما تتفق عليه ما تعرف بجلسات الحكماء، ولو تناقضت نتائجها مع أحكام القوانين العامة.
تفكيك مصالح المنتفعين
يعبّر ارتباط الكثير من المجتمعات العربية بعادات سيئة عن ارتباط ضمني لمصالح مجموعات معينة من البشر تنتفع بتلك العادات، وتلجأ إلى البحث عن أطر داعمة لضمان استمرارها من خلال إضفاء نوع من القداسة الواهية عليها برد الأمر إلى الدين والتأويل واللجوء إلى التزوير نصوص بعينها لإسباغ مشروعية على عادات يصعب محوها بالقانون.
وفي هذه الحالة يُصبح أي قانون جديد مناقضا للعادة السيئة المستشرية ومتعارضا مع ما قد يتصوره العوام جزءا من الشريعة الإسلامية.
وتستفيد مجموعات المصالح من ممارسة العادات السيئة، مثلما هو الحال في ختان الإناث، حيث تجد القابلات والممرضات وربما الأطباء مكسبا ماديا.
وأوضحت الدكتورة نيفين عبيد الباحثة في قضايا التنمية والنوع الاجتماعي بالمجلس القومي للدراسات الاجتماعية بالقاهرة لـ”العرب”، أن استمرار العادات السيئة مرهون في الغالب باستمرار مكاسب المستفيدين منها، خاصة أن الفهم المغلوط للدين يلعب دورا في نشر هذه العادات.
وأكدت أن فراغ الساحة الدينية من نشر التنوير الصحيح يسمح لمدعي التديّن بخداع الناس والتلاعب بهم، سعيا للتماثل مع غلبة النظرة الذكورية على المجتمعات أو تقرّبا من التيارات الدينية المتطرفة.
ولاحظت عبيد أن القطاعات التحتية أو الدنيا في المجتمعات العربية قد تتقبل فتوى أو رأيا متشددا يعتبر ختان الإناث فضيلة أو سنة جائزة، بينما لا تتقبل فتوى دار الإفتاء المصرية الرسمية التي تحذر من العادة وتُنكر تغليفها برداء الدين، ووجود تخبط في مواقف علماء الدين ينسحب دوما لصالح ما يتفق مع النظرة الذكورية التي تعتبر جسد المرأة بابا لكل رذيلة وطريقا لكل معصية.
ويصر البعض من رجال دين على مزج فهمهم الديني للقضية برؤى وتصورات المجتمع الذي يعيشون فيه، ما دفع الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق إلى إصدار فتوى شهيرة وصف فيها ختان الإناث بأنه “أمر محمود”، واتفق مجمع الفقه بالسودان في السابق على “جواز الختان”، نظرا إلى تغلغله في كافة أنحاء المجتمع وصعوبة دحره.

يامنة بن راضي: السنوات الأخيرة شهدت تغيرات مجتمعية لافتة في بلدان شمال أفريقيا
ويشير الكثير من الخبراء إلى أن هناك حاجة ماسة لبرامج مجتمعية محددة وواضحة المعالم للتغلب على العادات المشينة في المجتمع، فتشديد العقوبات على تجار المخدرات لم يُنه الاتجار بها، لأن المصلحة القائمة المترتبة على الاتجار أهم وأقوى من مخاطر التعرض لأي عقاب محتمل.
ولفت فهمي بهجت، الخبير القانوني في تصريح لـ”العرب” إلى أن العادات القديمة ذات الآثار السلبية مجتمعيا تحتاج إلى برامج إعلامية وثقافية وتعليمية تتجاوز مواد القانون التي قد لا يعرفها ولا يراها رجل الشارع العادي، ويعتقد مخالفو القوانين أن بإمكانهم الإفلات من الوقوع تحت طائلته والتحايل عليه.
وشدّد بهجت على ضرورة الدخول بشكل أعمق في المجتمعات التحتية وإجراء التوعية الفعالة عبر وسائط متباينة وغير تقليدية للتأثير فيها ونبذ أي عادات مشينة مهما كانت درجات ترسخها في المجتمع.
وتتصور نيفين عبيد أن المحاورات واللقاءات المباشرة التي يمكن لمؤسسات مدنية، غير حكومية أن تقوم بها، لها دور فعال في تغيير تصورات وقناعات العامة في الريف والمناطق الشعبية التي تعاني من الجهل والفقر ونقص كبير في الخدمات الأساسية.
ونبّهت إلى أن مجرد شعور هذه الفئات بوجود من يكترث لأمرهم، ويهتم بسلامتهم وصحتهم أفضل كثيرا من تشديد عقوبة الأهل المتورطين في الختان جهلا أو انسياقا مع تيار سلوكي عام.
ومن الضروري العمل على تجفيف المنافع المتحققة في حال سريان أي عادة اجتماعية سلبية، وربطِ الممتنعين عنها بمنافع أخرى أكثر إغراء.
مزايا الانفتاح

فراغ الساحة الدينية من نشر التنوير الصحيح يسمح لمدعي التديّن بخداع الناس والتلاعب بهم
يلعب الانفتاح الثقافي دورا في تغيير النظرة العامة للمرأة، ويسهم في محو الكثير من العادات المجتمعية المسيئة لها، فالدول التي حققت تقاربا وانفتاحا أكبر على العالم الخارجي حظيت بتقدير أكبر للنساء، وشهدت تحسنا في أوضاعهن الاجتماعية بشكل عام.
وكشفت الكاتبة الجزائرية يامنة بن راضي لـ”العرب” أن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات مجتمعية لافتة في بلدان شمال أفريقيا في ما يخص ضبط الكثير من العادات السلبية المعادية للمرأة.
وأوضحت أن تطور الأوضاع الاقتصادية والانفتاح على أوروبا من جانب الجزائر وتونس والمغرب، لعبا دورا ما في الحد من عادات مشينة ضد المرأة مثل ختان الإناث وتزويج القاصرات، وممارسة العنف ضد النساء.
وقالت إن التقاليد ذاتها الحاكمة للزواج في شمال أفريقيا تغيّرت حتى في الريف لتصبح المرأة صاحبة الرأي في الزواج، على عكس بلدان عربية أخرى عاشت فيها الكاتبة مثل سوريا، والتي تتحكم العائلة في زواج الفتاة بصورة شبه مطلقة، كذلك الحال في تعدد الزوجات الذي صار مستهجنا لدى المجتمعات الأكثر انفتاحا، بغض النظر إن كان القانون يجيز أو يقيّد ذلك.
وثمة بالفعل تصور عام يرى أن مواجهة العادات المشينة يتطلب تواصلا ثقافيا واسعا مع الثقافات الأخرى للتأكيد على أن هناك مَن هم يخاصمون تلك العادات ويشعرون بالرضا والاستقرار الاجتماعي بشكل أفضل، ما يعني أن الامتناع عنها يفيد الجميع.