هل رجّح الروس مصالحهم مع الجزائر على علاقتهم بمالي

روسيا خيرت استرضاء الجزائر على دعم مالي في حربها ضد الانفصاليين الأزواد ودفع فاغنر لوقف هجوم انتقامي كبير يرد الاعتبار للنظام العسكري ولفاغنر نفسها كقوة مهيمنة وفعالة. والنتيجة قد تتجاوز التأثيرات المباشرة للقرار إلى المس من مصداقية روسيا وتحالفاتها في منطقة الساحل وفي أفريقيا ككل.
باماكو- يبدو أن رهان مالي على مجموعة فاغنر الروسية لمساعدتها في الحرب ضد المتمردين الأزواد قد فشل ليس لاعتبارات عسكرية، ولكن لحسابات سياسية راعت فيها موسكو مصالحها مع الجزائر على تحالفها مع النظام العسكري في مالي، الذي عادى الغرب والجزائر مراهنا على الدعم الروسي المباشر من بوابة فاغنر.
ويجري الحديث عن أن روسيا أوقفت هجوما انتقاميا كبيرا كانت مالي ترتب له بالاشتراك مع فاغنر، وذلك تحت ضغوط من الجزائر التي تعتبر أن حلفاءها الروس قد ساهموا في سحب البساط من تحت قدميها في مالي، التي استقوت بهم للخروج من اتفاق كان رعاه الجزائريون في 2015.
ولن تقود القطيعة بين مالي وفاغنر إلى خسارة النظام العسكري في باماكو فقط. ولا شك أن تأثيرها سيكون كبيرا على صورة فاغنر في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، البلدان التي قامت فيها أنظمة عسكرية تتحدى الغرب وتراهن على الدعم الروسي، في استدعاء لتحالفات الحرب الباردة. ولن يقف الأمر عند منطقة الساحل، وقد يتسع ليصبح شكّا أفريقيا في قدرات فاغنر على حماية الأنظمة التي لجأت إليها وحماية الاستقرار، وبالنتيجة صعوبة الاعتماد على روسيا كحليف إستراتيجي.
وكشف تقرير لمجلة “جون أفريك” أن التحالف الإستراتيجي بين مالي وفاغنر أصبح موضع شك، لاسيما مع ظهور دلائل على وجود خلافات متزايدة بعد عملية مشتركة حديثة في منطقة “تينزواتين”، إذ تشير تقارير إلى أن بعض العناصر الروسية قد تغادر البلاد قريباً.
وأوضح التقرير أن العملية التي أُطلق عليها اسم “الانتقام”، بدأت في أوائل أكتوبر وكانت تهدف إلى الرد على الهجوم الذي تعرّضت له قافلة روسية – مالية في يوليو الماضي من قبل تحالف الأزواد، وعلى الرغم من التوقعات بحدوث هجوم كبير، لم تجر أيّ معارك.
وفسرت صحيفة “لوموند” الفرنسية، التراجع عن الهجوم بتحذيرات جزائرية لموسكو من العواقب الخطرة للعملية التي كانت ستجري بالقرب من حدودها.
ويتساءل محمد بوشيخي، الباحث المغربي المتخصص في القضايا الجيوسياسية والحقل الديني، في مقال له بمركز المستقبل للدراسات إلى أيّ حد يمكن اعتبار سيناريو “القطيعة” مع فاغنر ممكناً؟ وكيف يمكن لهذا السيناريو أن يؤثر في علاقة مالي بروسيا؟ سواء بسبب مشاعر الإحباط لدى باماكو من موسكو التي رجَّحت المصالح الجزائرية أم بسبب قرار روسي مُحتمل لحشد عناصر فاغنر على الجبهة الأوكرانية.
ويعتقد مراقبون أن التوتر الحالي قد يفضي إلى قطيعة لأن الأمر لا يتعلق بخلاف تكتيكي أو صراع على المواقع أو بسبب شروط مجحفة من فاغنر على نظام يحتاج إلى الدعم، الأمر يستهدف وضع مالي إقليميا وجعلها مرتبطة بالجزائر، ما يفتح الباب لعودة التوازنات القديمة التي أطاح بها النظام العسكري الجديد، وأيّ قبول بها سيعني أنه نظام ضعيف، ما يهز من صورته ومصداقيته.
ويمكن أن توجه القطيعة ضربة قوية للرهان على روسيا كخيار بديل عن التوازنات السابقة التي كانت تسيطر عليها فرنسا وتحميها عن طريق حلفاء إقليميين مثل الجزائر، ما يجعل منطقة الساحل مرتهنة لباريس وحلفائها.
ويقول بوشيخي إن هذه ليست المرة الأولى التي تجد فيها سلطات مالي نفسها في مواجهة تحدي السيادة الوطنية من طرف المجموعة الروسية.
◄ يجري الحديث عن أن روسيا أوقفت هجوما انتقاميا كبيرا كانت مالي ترتب له بالاشتراك مع فاغنر، وذلك تحت ضغوط من الجزائر
ففي نوفمبر 2023 وبعد أقل من أسبوع من فرض السيطرة على مدينة كيدال في شمال مالي، نشرت فاغنر شريط فيديو يُظهر رفع علمها فوق حصن المدينة لتأكيد فضلها في طرد المتمردين رداً على زعيم مالي أسيمي غويتا الذي احتفى في كلمته بالمناسبة ببطولات الجيش المالي، وتجاهل مساهمة فاغنر الحاسمة في هذا النصر الذي ظل عصياً على فرنسا والقوات الغربية منذ مارس 2012.
ومثل هذه المواقف من جانب فاغنر مرشحة للتطور نحو الاصطدام المباشر مع سلطات مالي؛ نتيجة التناقض في رؤية كل منهما للآخر؛ ففاغنر تنظر إلى الماليين من حيث حاجتهم للأمن الذي توفره لهم عناصرها وهم بهذا مدينون لها بحق الحياة، بينما تنظر مالي لفاغنر من زاوية التعاقد بينهما بصفتها جهة “مرتزقة” تُقدم خدمات أمنية مقابل امتيازات مادية وفي كل الأحوال تبقى مقيدة بتفاهمات الشراكة مع روسيا التي تحكمها المصالح المتبادلة.
واستثمرت روسيا دبلوماسياً وعسكرياً في مالي لخلق نفوذ في الساحل يُعوض النفوذ الغربي الآخذ في الأفول منذ الانقلاب العسكري لعام 2020، فقدمت نفسها للنظام الجديد كبديل قوي قادر على تلبية مطالبه التحررية بتعزيز استقلالية القرار الوطني الذي ظل، في تصور الرأي العام المالي، مصادراً من طرف فرنسا؛ ولهذا حرص وزير خارجية مالي عبدالله ديوب خلال لقائه نظيره الروسي سيرجي لافروف، في موسكو، في أواخر فبراير 2024، على التذكير بسعي مالي لتعزيز التعاون العسكري مع شركاء آخرين مثل الصين وتركيا.
إن وعي سلطات مالي بمحدودية القوة الروسية وريبتها بشأن مستقبل فاغنر على أراضيها وإدراكها لتصاعد متطلباتهما المالية؛ جعلها تُعزز احتياطاتها باستثمار كل البدائل المتاحة للوجود الروسي بدءاً من جارتيها في الساحل؛ بوركينا فاسو والنيجر.
ففي سبتمبر 2023 تم الإعلان عن “تحالف دول الساحل” الذي تعهدت من خلاله الدول الثلاث (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) بالدفاع المشترك في حال وقوع أيّ تمرد داخلي أو عدوان خارجي، والتزمت بمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله والجريمة المنظمة في الفضاء المشترك للتحالف. وفي الشهر نفسه، تم تنظيم اجتماع خبراء من الدول الثلاث؛ بهدف تسريع عملية التكامل الاقتصادي والمالي بينها، وتقديم مقترحات بشأن إطلاق “اتحاد اقتصادي ونقدي”.
كما أن مالي، التي كشف وزير اقتصادها في أواخر سبتمبر الماضي طموحاتها الكبرى بإعلان اهتمامها بالانضمام لتجمع بريكس، انخرطت في توسيع دائرة تحالفاتها الأمنية، التي باتت تشمل خصوصاً الصين وتركيا وإيران، وذلك على النحو التالي:
1- الصين: حرصت مالي على توثيق علاقاتها الأمنية مع الصين كقوة عظمى تعاطفت معها في مواجهة الغرب، ودعت المجتمع الدولي، في يناير 2023، إلى دعم حربها ضد الإرهاب بالتمويل والمعدات والاستخبارات واللوجستيك واحترام حقها في التعاون الأمني، ووفرت لها تسهيلات في الدفع بعد تسلم مشترياتها من الأسلحة مراعاة للحظر المفروض عليها من “إيكواس”.
وعلى هامش قمة منتدى التعاون الصيني – الأفريقي “فوكاك 2024” في سبتمبر الماضي، تم الاتفاق مع شركة “نورينكو” الدفاعية الصينية لتزويد مالي بالمعدات والتدريب والتكنولوجيا في أهم المجالات العسكرية؛ الأمر الذي يبقى مرشحاً للازدهار بعد إضفاء زعيمي البلدين، في أوائل سبتمبر الماضي، طابع “الشراكة الإستراتيجية” على علاقاتهما، وإعراب غويتا عن أمله في الاستفادة من الخبرة الصينية في المجالات الأمنية وغيرها.
2- تركيا: اتجه اهتمام الدبلوماسية المالية نحو تركيا، التي أعلنت دعمها لها في الحرب ضد التنظيمات المتمردة، وأقنعت سلطاتها بفاعلية صناعتها العسكرية في مكافحة الإرهاب خاصةً الطائرات من دون طيار من طراز “بيرقدار تي بي 2” التي زودت الجيش المالي بثلاث منها في مارس 2023، قبل أن يترأس غويتا بنفسه، في بداية العام الجاري، حفل تسلم نحو 20 طائرة منها.
3- إيران: رأت مالي في إيران حليفاً مُحتملاً يُعينها على ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الغربية من أراضيها. فوفرت لها فرصة الولوج إلى الساحل. وروّجت طهران لقدرتها على مساعدة مالي في قتالها ضد المتمردين، بجعل “تصدير السلاح” خاصةً الطائرات المُسيَّرة مفتاحاً لشراكتهما واستحضار الملف الأمني في كل مباحثاتهما.
القطيعة بين مالي وفاغنر لن تقود إلى خسارة النظام العسكري في باماكو فقط. لا شك أن تأثيرها سيكون كبيرا على صورة روسيا
تتعامل مالي مع سيناريو “القطيعة” مع فاغنر كخيار واقعي، خاصةً أن تمردها على دولتها الأم (روسيا) في يونيو 2023 تحت قيادة زعيمها السابق يفغيني بريغوجين ما زال يتفاعل في الذاكرة بالرغم من شكليات إلحاقها بالدولة الروسية باسم “فيلق أفريقيا”.
لذلك نوَّعت مالي شراكاتها، وجعلت المسألة الأمنية حجر الزاوية فيها، لكن هذه الشراكات بالرغم من أهميتها لا يُمكنها تغطية كل حاجاتها الأمنية المُرشحة للتفاقم جراء أي انسحاب مباغت لفاغنر؛ وذلك لاعتبارات تتعلق بضعف منتجاتها ومصاعبها التمويلية وتداعيات تنافسها غير المتكافئ مع القوى الغربية، ثم تنامي تهديدات التنظيمات الإرهابية والانفصالية، التي ازدادت مؤشرات تقاربها وشراسة هجماتها.