هل تبحث مجموعة بريكس عن نظام دولي جديد

توسيع التكتل غير الموحد اقتصاديا وسياسيا يعمق مشكلاته.
الأربعاء 2023/08/23
تطلعات حالمة لنظام عالمي جديد

تبدي بريكس وخاصة روسيا والصين باعتبارهما أكبر عضوين في المجموعة، رغبة في تغيير النظام العالمي، لكنها رغبة تظل غير ممكنة بالنظر إلى طبيعة الدول الأعضاء والاختلاف الكبير بينها على مستوى الثقل الاقتصادي والسياسي وحتى على مستوى تعاطيها مع أهم الملفات الاقتصادية والسياسية العالمية.

لندن - التطلعات التي تحيط باجتماع قادة منظمة بريكس في جوهانسبرغ كبيرة وكثيرة. ولكن ينقصها التمويل والمرجعية والسوق الموحدة.

أكبر التطلعات يقضي بأن تكون هذه المنظمة “ركيزة اقتصادية لنظام عالمي جديد”. وفي الحقيقة، فلو أن دول هذه المنظمة كانت سوقا موحدة، على غرار الاتحاد الأوروبي، لكان بوسعها القول، بسهولة، إنها أكبر قوة اقتصادية في العالم، الأمر الذي يبرر لها ما تبرره الولايات المتحدة لنفسها.

ففي حين بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في العام الماضي 20.94 تريليون دولار، ليكون بذلك أكبر اقتصاد في العالم، ويمثل بمفرده، حوالي 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن إجمالي الناتج المحلي لمجموعة بريكس بلغ 27 تريليون دولار، ويمثل أكثر من 30 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي.

ولكن مجموعة بريكس ممزقة اقتصاديا، بمقدار ما هي ممزقة سياسيا أيضا. ولا توجد فيما بين دولها روابط تسمح ببناء “سوق مشتركة”. والهدف الرئيسي المشترك هو تنمية التبادلات التجارية فيما بينها، وتمويل مشاريع تنموية أو استثمارية مشتركة.

الرئيس الصيني شي جينبينغ حدد تطلعات بلاده في مستهل القمة بالقول "نحضّ المجتمع الدولي على إعادة التركيز على قضايا التنمية"
الرئيس الصيني شي جينبينغ حدد تطلعات بلاده في مستهل القمة بالقول "نحضّ المجتمع الدولي على إعادة التركيز على قضايا التنمية"

ولا تزال دول المجموعة التي تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تبحث عن سبيل للتخلص، في تعاملاتها التجارية، من الدولار كعملة مرجعية. وعلى الرغم من رغبتها في زيادة التبادلات التجارية بالعملات المحلية، فإن تفاوت القوة الاقتصادية لكل منها، وتفاوت العوامل التي تؤثر في استقرار العملة والتضخم، جعلا من التوصل إلى معيار مرجعي (يجمع ويُقّسم ويرسي القيمة على أساس ثابت، مثل الذهب أو الدولار) أمرا عسيرا. وعلى الرغم من أنه ليس مستحيلا بالضرورة، إلا أن التوصل إليه لم يتم بعد، بسبب الحركية الاقتصادية المحلية لكل دولة، وبسبب حجم ارتباطات اقتصاداتها بالأسواق الدولية الأخرى.

“بنك بريكس” يمثل ركيزة الركائز للتعاون بين دول المنظمة، والتطلعات تذهب إلى أنه يمكن أن يشكل بديلا لصندوق النقد الدولي. إلا أن التدقيق في الحقائق يشير إلى أن إجمالي احتياطات بنك بريكس يبلغ 100 مليار دولار، بينما يبلغ إجمالي احتياطات صندوق النقد الدولي 2.4 تريليون “وحدة سحب خاصة” (يتم تحديد قيمتها على أساس سلة من العملات الرئيسية). ما يجعل بنك بريكس فقيرا نسبيا. وهذا السبب هو ما يجعل الصين تميل، وهي المستثمر الرئيسي فيه، إلى تمويل مشاريعها في الدول الأخرى من دون الاستعانة باحتياطاته.

توسيع مجموعة بريكس لتضم دولا مرشحة تصل إلى نحو 20 دولة، يزيد مشكلات المجموعة، لجهة أنها دول ذات اقتصادات غير مستقرة في الغالب، وتعاني من مشكلات تضخم وأعباء ديون كبيرة، مثل مصر وتركيا وإيران.

حجرا الزاوية الرئيسان في التطلع إلى بناء نظام دولي جديد، هما الصين وروسيا. وهناك أهداف معلنة بهذا المعنى. بعضها يأخذ طابع منافسة اقتصادية شرسة، كما هو الحال بالنسبة للصين، وبعضها الآخر يأخذ طابعا عسكريا، كما هو الحال بالنسبة لحرب روسيا في أوكرانيا. ولكن ما هي حزمة الأشياء غير المنظورة التي تجعل هذا التطلع زائفا؟

الصين مؤهلة نظريا لتكون هي مركز الثقل الاقتصادي للنظام الدولي الجديد، ولكن ليس لأن ناتجها الإجمالي بلغ في العام الماضي نحو 17.96 تريليون دولار، فحسب، بل لأنه ظل لنحو ثلاثة عقود من الزمن يحقق نموا يزيد عن 7 في المئة سنويا. وهي نسبة تم تجاوزها عدة مرات، ومنها في العام الماضي حيث بلغ معدل النمو 8.1 في المئة وذلك بينما ظلت ترزح أعتى الاقتصادات الغربية تحت معدل نمو يتراوح بين 2 و3 في المئة، أو أقل في الكثير من الأحيان.

مجموعة بريكس ممزقة اقتصاديا، بمقدار ما هي ممزقة سياسيا أيضا. ولا توجد فيما بين دولها روابط تسمح ببناء "سوق مشتركة"

ويعتمد النمو الصيني على التجارة مع العالم، ولكنها تجارة مشدودة بحبال سميكة مع “اقتصاد النظام الدولي القائم”، وذلك إلى درجة أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ودول صناعية غربية أخرى، تشعر أنها هي التي “صنعت الوحش”، وإنها تستطيع “لجمه”. فعلى الرغم من أنها تقر الآن بصعوبة كبح الصين، إلا أنها حالما بدأت وضع أولى العقبات، حتى بدأت ملامح الأزمة في الصين بالظهور.

يبلغ أحدث إجمالي صادرات الصين السنوية مع العالم 3.6 تريليون دولار، مما جعلها أكبر مُصدّر للسلع في العالم. ويمثل حجم صادراتها حوالي 13 في المئة من إجمالي الصادرات العالمية. ولكن لتلاحظ كم هي سميكة الحبال التي تشد الاقتصاد الصيني باقتصاد “النظام الدولي القائم”، قد يكفي أن تعرف أن حجم التبادل التجاري السنوي بين الصين والولايات المتحدة بلغ في العام الماضي 755.5 مليار دولار، مما جعل البلدين أكبر شريكين لأحدهما الآخر. والشراكة لصالح الصين، إذ صدّرت الولايات المتحدة بضائع وخدمات بقيمة 178.5 مليار دولار إلى الصين، بينما اشترت منها ما قيمته 577 مليار دولار. وفي الواقع، فإن “الفائض التجاري” لصالح الصين هو فائض نفوذ ودلالات سياسية لا يمكن تجاهلها لصالح الولايات المتحدة.

الشيء نفسه يتكرر في العلاقات التجارية الصينية مع الاتحاد الأوروبي. حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 719.4 مليار دولار في العام الماضي. وفي حين صدر الاتحاد الأوروبي ما قيمته 159.3 مليار دولار إلى الصين، فقد اشترى منها ما قيمته 560 مليار دولار أميركي. وهذا الشيء نفسه يتكرر أيضا في العلاقة مع اليابان وكوريا الجنوبية وكندا وأستراليا، لترى كيف أن “البعبع” الصيني ليس بعبعا، بالمعنى الحقيقي للكلمة. وإن روابطه نفسها لا تؤهله لاستعراض مزاعم كبيرة.

الملاحظة التي كثيرا ما تغرب عن الانتباه، هي أن معظم الذين يتحدثون عن “نظام دولي جديد” هم ليسوا من المسؤولين الصينيين.

وعلى الرغم من أن تطلعات بناء “نظام دولي جديد” كانت هي الغيمة التي تظلل اجتماعات قمة بريكس، فإن الرئيس الصيني شي جينبينغ حدد تطلعات بلاده في مستهل أعمال القمة بالقول “نحضّ المجتمع الدولي على إعادة التركيز على قضايا التنمية، ودعم آلية التعاون التابعة لبريكس لتلعب دورا أكبر في الحوكمة العالمية، وجعل صوت بريكس أقوى”. وهذه طموحات لا ترقى إلى مستوى البحث عن “نظام دولي جديد”، ولا تجرؤ حتى على التحدث عنه.

قبل أن تندلع أزمة التمويل العقاري في الصين، كان الرئيس الأميركي جو بايدن وصف الصين بأنها “قنبلة موقوتة”. والقنبلة انفجرت بعد أقل من أسبوع، عندما عجزت أكبر شركتين للتمويل العقاري، هما “كانتري غاردن” و”إيفرغراند”، عن تسديد أقساط ديونها. ولأجل توفير آلية للإنقاذ، أعلن البنك المركزي الصيني عن خفض الفوائد من أجل تحفيز الاقتصاد ومساعدة الشركات على تمويل قروضها وإنعاش الاستهلاك، ودعم النمو المتباطئ.

تباطؤ النمو في الاقتصادات الغربية، الذي ترافق مع تنامي الحوافز من أجل الحد من “التبعية” الصناعية الغربية للصين، وتكاليف الحرب في أوكرانيا، هما من بين أبرز الأسباب التي تقف وراء تراجع النمو في الصين. وعندما يتعلق الأمر بالموقف من “النظام الدولي الجديد”، فكأن لسان حال الاقتصاد الصيني يقول “رحماك يا قديم”.

تبلغ ديون شركة “إيفرغراند” نحو 300 مليار دولار. وتبلغ ديون “كانتري غاردن” نحو 194 مليار دولار، بينما يبلغ إجمالي الديون الخارجية لبلد مثل مصر 164 مليار دولار، ولبلد مثل تركيا 453 مليار دولار.

والسبب الذي يجعل “القنبلة الموقوتة” قد تنتظر انفجارا أوسع، هو أن تمويل النمو من خلال الاقتراض، يجعل الاقتصاد برمته رهينة للقدرة على تسديد أعباء الديون. وما لم تتوفر هذه القدرة، فإن جدار القوة يتصدع. وعندما تتراجع التجارة مع الخارج، فإن انهيارا اقتصاديا أوسع هو الشيء الوحيد المحتمل.

الشيء نفسه يتكرر الآن في روسيا، عندما عاد الروبل ليسجل انهيارا سريعا حتى بلغ سعر الدولار الواحد، في غضون هذا الشهر، أكثر من 100 روبل.

الحرب في أوكرانيا، وعقوبات “النظام الدولي القائم” هما السببان. هناك أيضا تبدو تطلعات بناء نظام دولي جديد زائفة، وتستغيث هي الأخرى بالقول: رحماك يا قديم.

هذه التطلعات، داخل مجموعة بريكس أو خارجها، تحتاج إلى أن تنضج، وأن تنظر في الحقائق. وهو ما لا يفعله في العادة السياسيون الذين يبيعون الجهل إلى جمهورهم.

7