هل بمقدور واشنطن إعادة ترسيخ الردع لمواجهة الخصوم

الولايات المتحدة لم تعد قادرة على قيادة العالم لوحدها وفسحت تراجعاتها المجال لظهور قوى جديدة قادرة على منافستها على مواقع النفوذ.. والمفارقة هنا أن واشنطن باتت عاجزة عن العودة إلى استراتيجية الردع لفرض أجنداتها كما باتت عاجزة عن التمكين لدبلوماسيتها التي على أساسها أخذ القادة قرارا بالانسحاب من الصراعات.
واشنطن- يشهد نفوذ الولايات المتحدة تراجعا لافتا على المستوى الدولي سواء في مناطق الصراع كأوكرانيا أو في مناطق نفوذها التقليدي مثل الخليج، وحلت محل هذه التراجع دول ذات نفوذ متصاعد دوليا مثل الصين وروسيا وأخرى ذات نفوذ إقليمي مثل إيران.
ويقول محللون سياسيون إن هذا التراجع في جانب منه يعود إلى الاستراتيجية المعتمدة أميركيا والتي تريد أن تتخلى عن ترسيخ الردع مقابل التمكين للدبلوماسية، وهي استراتيجية شرّعت لتراجعات غير مفهومة لدى الحلفاء، من ذلك موقف واشنطن القائم على تقليص ظهورها الدفاعي في منطقة الخليج ونقل أسلحتها الدفاعية إلى جنوب شرقي آسيا، وهو ما يعني فتح الباب أمام إيران لملء الفراغ من جهة، ودفع دول الخليج إلى البحث عن حلفاء بشكل سريع فكان التوجه نحو الصين وروسيا. وبدلا من أن تعزز واشنطن نفوذها في ملعب جديد خسرت أحد أبرز مواقع نفوذها التقليدي.
وترى المحللة السياسية جوديث بيرجمان أن هناك تقلصا في الردع الأميركي منذ سنوات، والسبب في ذلك هو السياسات الفاشلة والمصالح القومية التي أسيء تحديدها، والتي من الواضح أنها كانت محط أنظار الجهات المنافسة والفاعلة مثل روسيا والصين وإيران. وقد أثبت الغزو الروسي لأوكرانيا أن الردع الأميركي في حال يرثى لها.

جوديث بيرجمان: هناك تقلصا في الردع الأميركي منذ سنوات، والسبب في ذلك هو السياسات الفاشلة والمصالح القومية التي أسيء تحديدها
وتقول بيرجمان في تقرير نشره معهد جيتستون الأميركي إن روسيا والصين وإيران شاهدت في عام 2013 الرئيس الأسبق باراك أوباما وهو يظهر أن “خطا أحمر” أعلنته الولايات المتحدة في سوريا لم يكن شيئا يحمل أيّ معنى. ويقوم هذا الخط على وقف دعم المعارضة ماليا وتسليحيا، والتخلّي عن الضغوط على الرئيس السوري بشار الأسد، وهذا الانسحاب فسح المجال لدخول روسيا إلى الملعب السوري في 2015. كما كان مؤشرا رئيسيا أدى إلى تشظي المعارضات وارتهانها لأجندات إقليمية أخرى.
وفسح التراجع الأميركي أيضا الطريق أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الرجل القوي الذي نجح في وضع بصمته على قضايا مختلفة، فقد استطاعت روسيا غزو جورجيا وضم شبه جزيرة القرم، بينما استطاعت الصين السيطرة على هونغ كونغ، فيما لم تبد الولايات المتحدة أيّ ردة فعل لإظهار رفضها لمسارات فرض الأمر الواقع بالقوة.
وشاهد العالم في أغسطس 2022، استعداد الرئيس الأميركي جو بايدن لتسليم أفغانستان لحركة طالبان، والتخلي عن دولة حليفة للولايات المتحدة وترك مواطنيها الذين تعاونوا بكل ولاء مع واشنطن طوال 20 عاما في فوضى قاتلة. وهذا الانسحاب يوفر فرصة نادرة لإعادة تجميع المتشددين في أفغانستان والانطلاق منها لتهديد مصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي مثلما حصل في الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وتوضح بيرجمان، وهي أحد كبار زملاء معهد جيتستون، أن هذا التآكل المستمر للردع الأميركي – والانطباع بأن كل ما تقدر عليه الولايات المتحدة هو الكلام وبدون عمل – جعل أنه لم يعد من الممكن الثقة بها كقوة عالمية، وهو الذي دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تقدير أن بوسعه غزو أوكرانيا دون دفع ثمن باهظ.
وأكدت بيرجمان أن المهمة التي يتعين على الولايات المتحدة القيام بها هي منع بوتين وشي جين بينغ وعلي خامنئي وأمثالهم في العالم من أن يزدادوا جرأة ويحاولوا تحقيق أطماعهم الإقليمية في دول البلطيق، ودول شمال أوروبا وشرق أوروبا، وتايوان، وبحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط.
وتحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة ترسيخ الردع الضروري في وجه التهديدات العسكرية التي أصبحت أميركا – والغرب عموما – يعتقدون بنفس راضية أنه عفا عليها الزمن وغير ذات صلة، ومجرد مخلفات من الحرب الباردة.
وقالت بيرجمان أن هناك أمرين يتعين على الولايات المتحدة أساسا القيام بهما لردع الجهات الفاعلة السيئة وطمأنة الحلفاء بأنها قوة يمكن للمرء الاعتماد عليها وضرورة أخذها في الاعتبار وهما: التركيز على المصالح القومية الأميركية وإعادة الالتزام على نطاق واسع بالأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها. وفي الوقت الراهن، كما قال المؤرخ بيرنارد لويس “أميركا غير ضارة كعدو ولكن غادرة كصديق”.
وأوضحت بيرجمان أن التهاون الذي بدأت إدارة بايدن تنظر به للتهديدات العسكرية، مثل غزو روسيا لأوكرانيا، باعتباره شيئا من الماضي، أدى إلى ترتيب خاطئ لأولويات القضايا مثل تغير المناخ باعتباره التهديد الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة. وهذا التركيز المضلل جاء على حساب تعريف حقيقي لماهية المصالح القومية الحيوية للولايات المتحدة وكان يجب أن يكون في وجه تهديدات الأمن القومي الفعلية.
ومنذ أكثر من عشرين عاما، في يوليو أصدرت لجنة المصالح القومية لأميركا، بالتعاون مع مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة هارفارد، ومركز نيكسون، ومؤسسة راند تقريرا بعنوان “ما هي المصالح القومية لأميركا؟” (المعروف أيضا بتقرير بيلفر)، والذي أدرج المصالح القومية الأميركية باعتبارها “شروطا ضرورية تماما لضمان وتعزيز بقاء الأميركيين ورفاهيتهم في دولة حرة وآمنة”.
وأدرج تقرير بيلفر خمسة مجالات، من بينهم أساسا منع وردع وخفض تهديد الهجمات على الولايات المتحدة أو قواتها العسكرية في الخارج، وضمان بقاء حلفاء الولايات المتحدة وتعاونهم النشط مع واشنطن في صياغة النظام الدولي الذي يمكن أن نزدهر فيه. وبعد أكثر من 20 عاما، وفي الوقت الذي تسعى فيه الصين وروسيا لتوسيع نطاق مجالات نفوذهما، ليس هناك التزام بشكل مناسب بهذين المصلحتين الأساسيتين من جانب الولايات المتحدة التي تنسحب من المناطق الحيوية والنفقات العسكرية الرادعة.
وتضيف بيرجمان أن إعادة بناء الردع سوف تتطلب إعادة التزام سياسي وعسكري واسع النطاق تجاه المصالح القومية الحيوية.
وتلك الأمور سوف تتطلب إعادة توجيه للسياسة يعترف بأن الولايات المتحدة هي قوة غربية أساسا في عالم يشهد تهديدات عسكرية عالمية من مجموعة من الجهات الفاعلة السيئة، من بينها بصفة أساسية الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
التراجع الأميركي فسح الطريق أمام الرئيس الروسي، الرجل القوي الذي نجح في وضع بصمته على قضايا مختلفة، فقد استطاعت روسيا غزو جورجيا وضم شبه جزيرة القرم، بينما استطاعت الصين السيطرة على هونغ كونغ، فيما لم تبد الولايات المتحدة أيّ ردة فعل
ومن ثم فإن ضمان عالم يتمتع بنظام دولي يمكن أن تزدهر فيه الولايات المتحدة يتطلب قيام واشنطن بإعادة التواصل عالميا بدلا من اتباع سياسة يمكن وفقا لها الفصل بين التهديدات.
وتقول بيرجمان إن إدارة بايدن، أو أيّ أدارة تأتي بعدها ستحسن صنعا بأن تعترف بأن الصين تهدد العالم كله، وأنه لا يمكن احتواء بكين بمجرد تركيز الجهود في الشرق الأقصى. كما أن تهديد روسيا لأوكرانيا ليس منفصلا، ولكن يمكن أن يمتد ليشمل مولدوفا ودول البلطيق وفنلندا والسويد وغيرها من الدول.
وبالنسبة إلى تهديد إيران للشرق الأوسط – نوويا ومن خلال أذرعها – وسعيها للهيمنة، فإنه لا يمكن حسم ذلك من خلال المواءمة المعتادة وضبط النفس، وعلى العكس يتطلب ذلك ردعا قويا.