هل العودة إلى ضبط التسلح النووي لا تزال ممكنة

واشنطن - وجه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال كلمة ألقاها عبر الإنترنت أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، يوم 23 يناير 2025، دعوة إلى الصين لخفض ترسانة الأسلحة النووية. وفي المقابل، ردت الصين بدعوة مقابلة لكل من روسيا والولايات المتحدة بخفض ترسانتيهما النوويتين أولاً، بينما أكدت روسيا جاهزيتها للانخراط في تلك المحادثات. وفي واقع الأمر، قد تكون هذه المواقف مكررة حرفياً في السنوات الماضية.
ويرى أحمد عليبه رئيس وحدة الاتجاهات الأمنية في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن مؤشرات سباق التسلح تتعدد إلى الحد الذي يشير إلى النهج المرحلي وسياسات القوى النووية الكبرى.
وانفلت عقال ضبط التسلح النووي لأول مرة منذ الحرب الباردة، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، مع تعليق العمل بمعاهدة “نيو ستارت” بين موسكو وواشنطن، في فبراير 2023. والنقطة الأخطر من التعليق هي أن المعاهدة على وشك الانتهاء، وكان ينبغي أن يعمل الثنائي الروسي الأميركي على بدء مباحثات حول إطار جديد.
وسبقت هذه الخطوة عملية انسحاب الولايات المتحدة، عام 2019، من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (INF Treaty)، وهي مسألة كانت متوقعة بفعل التطورات التي شهدتها وسائل إيصال هذه الأسلحة عموماً، وعدم القدرة على الالتزام بمحددات المديات. والنتيجة التي ترتبت عن ذلك هي عملية تآكل الردع مع الوصول إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وزيادة الانتشار الصاروخي، ونشر أسلحة في المحيط الهادي، وربما يندرج موقف الرئيس ترامب من السيطرة على جزيرة غرينلاند في هذا السياق.
وقفز الإنفاق على التسلح النووي وتحديث القدرات والبنية التحتية، إلى مستويات قياسية. فوفق الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية، تنامى هذا الإنفاق عام 2023 بمقدار 10.8 مليار دولار، وتمثل الولايات المتحدة وحدها 80 في المئة من هذه الزيادة. في حين أن إجمالي الإنفاق الأميركي يُقدر حالياً بنحو 51.5 مليار دولار، مع رصد ميزانية تُقدر بنحو 1.5 تريليون دولار للتحديث حتى عام 2040.
من الصعب العودة إلى قواعد ضبط التسلح التي كانت قائمة منذ زمن الحرب الباردة وحتى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية
وعلى الرغم من أن الصين تحل في المرتبة الثالثة عالمياً في الوزن النووي؛ فإنها صعدت إلى المرتبة الثانية من حيث الإنفاق المُقدر بنحو 11.9 مليار دولار، تليها روسيا التي تحل في المرتبة الثالثة من حيث مستوى الإنفاق بقيمة 8.3 مليار دولار. ثم تأتي بريطانيا رابعاً، حيث تقترب من سقف الإنفاق الروسي بنحو 8.1 مليار دولار، وفي المرتبة الخامسة توجد فرنسا بمعدل إنفاق يقدر بنحو 6.1 مليار دولار، ولديها خطة تحديث معلنة (ما يقارب 60 مليار يورو بين 2023 و2030 لتطوير الثالوث النووي) في إطار مسعى استقلال القرار النووي.
وعلى مستوى الانتشار النووي، وهو مؤشر آخر يرتبط بالعوامل الجيوسياسية، يمكن القول إن القوى النووية كافة في حالة إعادة انتشار. فعلى سبيل المثال، نشرت روسيا أسلحة نووية في بيلاروسيا، وفي المقابل هناك تحرك عملياتي لحلف شمال الأطلسي “الناتو”. وفي حالة الصين، هناك توسع أكثر منه إعادة انتشار. وتعمل الصين، وفق تقديرات الاستخبارات الأميركية، على بناء صوامع جديدة للصواريخ البالستية العابرة للقارات، وزيادة عدد الرؤوس النووية، وتعزيز قدرة الثالوث النووي. بينما تتعدد مظاهر الانتشار الأميركي ضمن خطة إعادة انتشار “الناتو” في أوروبا من جهة، وأيضاً تحالف “أوكوس” خارج “الناتو”، والذي يتمحور من الناحية التسليحية حول بناء غواصات نووية متقدمة.
وعلى نحو ما سلفت الإشارة إليه، يمكن القول إن برامج التحديث النووي قد تضفي تحديات هائلة على عملية العودة إلى ضبط التسلح، ودلالة ذلك أن عمليات التحديث الحالية هيكلية؛ بمعنى أنها ستنتج في الأخير جيلاً جديداً ومختلفاً من القدرات النووية ووسائل إيصالها.
نقطة البدء في أي محادثات حتى ولو على المستوى الثنائي الروسي الأميركي، لن تكون هينة
ولعل القاسم المشترك في برامج التحديث النووي لدى الجميع هو إدماج الذكاء الاصطناعي فيها، ويبررون ذلك بتعزيز فعالية وأمان ومرونة الأسلحة النووية، وجعلها أكثر دقة وقدرة على المناورة لتجنب الدفاعات الجوية، بالإضافة إلى تحسين أنظمة القيادة والسيطرة دون منحها صلاحية اتخاذ القرار النهائي، وهي نقطة مهمة بالنظر إلى مخاوف الخروج عن السيطرة.
وعلى هذا النحو، يمكن مناقشة الفرص والقيود لبدء عملية ضبط التسلح النووي متعدد الأطراف، فمن جهة لا تعكس مؤشرات تطور برامج القوى النووية العظمى جدية الدعوة حول إعادة ضبط التسلح، بل على العكس يُتوقع أنه كلما تزايدت الدعوات لخفض التسلح النووي أن تكون ردة الفعل هي تسريع وتيرة سباقات التسلح النووي في ظل ما يُطلق عليه “حقبة الحرب الباردة النووية الجديدة.”
وفي ما يتعلق بالفرص، يمكن القول إن التحدي الرئيسي يتمثل في صعوبة العودة إلى قواعد ضبط التسلح التي كانت قائمة منذ زمن الحرب الباردة وحتى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي مثلت نقطة محورية في تراجع ضبط التسلح؛ ومن ثم قد تشكل عملية وقف الحرب الأوكرانية نقطة بداية لمحادثات ضبط التسلح، لكنها ستظل على المستوى الثنائي (الروسي – الأميركي/ الناتو)، ومع ذلك يتعين فتح الباب لتشجيع الصين من خلال جدول أعمال مرن، لا يبدأ بالحظر أو النزع، لأنه قد لا يكون أمراً منطقياً بالنسبة لبكين.
والنقطة الأخرى التي يتعين النظر إليها في مساحة الفرص والقيود هي عدسة العلاقات الدولية والنظام الدولي، فواحدة من الفرضيات التي يمكن تصورها هي أن عملية ضبط التسلح النووي قد تكون في الوقت ذاته أحد مداخل أو محاور ضبط النظام الدولي متعدد الأقطاب الذي يُعاد تشكيله. وهناك محطات حساسة في إعادة تشكيل النظام الدولي؛ إذ ربما تنظر الصين إلى أن تجربة ضبط التسلح في زمن الحرب الباردة جاءت في الأخير لصالح الولايات المتحدة.
وعلى مستوى القيود، يمكن القول إن نقطة البدء في أي محادثات حتى ولو على المستوى الثنائي الروسي الأميركي، لن تكون هينة، حيث إن مفردات السباق النووي الفنية باتت مختلفة كلية عن حقبة ضبط التسلح السابقة، وهي مسألة حيوية، لأنها قد تُعقد ترجمة أي محادثات نووية بين القوى الدولية. ويأتي في المقدمة منها أنه لا يمكن تصور أن اتجاه “الخفض الكمي” قد يكون نقطة البداية المُثلى، ففي العصر النووي الحالي (العصر النووي الثالث) لا يعني خفض عدد الرؤوس النووية بالتبعية توقف سباقات التسلح.
وسيتطلب الأمر كذلك إعادة النظر في تشكيل الطواقم واللجان الفنية متعددة الأطراف، وهي آلية لم تكن قائمة من قبل، إضافة إلى ترتيبات عملية الإنذار المبكر، ومعالجة الاعتبارات الجيوسياسية التي تعكس سياسات إعادة الانتشار والتوسع الهيكلي في الثالوث النووي، فضلاً عن معالجة ملفات الأطراف الإقليمية الساعية إلى حيازة أسلحة نووية مثل كوريا الشمالية وإيران.