هل أصبح التقدم التكنولوجي شكلاً من أشكال القمع الحديث

650 ألف فنان يطالبون بمنظومة تحميهم من الذكاء الاصطناعي.
الجمعة 2024/08/02
عندما تلتقي التكنولوجيا بالإبداع.. معرض لأعمال مصنوعة بالذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي ليس ظاهرة جديدة في حياتنا. إلّا أن العام 2022، الذي شهد ولادة برنامج تشات جي بي تي أحدث تحولًا كبيرًا في المشهد المعلوماتي والتكنولوجي وفرض منظومة قيم جديدة أثارت مخاوف عديدة في الأوساط الفنية.

يتعايش الإنسان مع التكنولوجيا في معظم جوانب الحياة اليومية، ويحاول التكيف مع التغيرات السريعة للمجتمع التي تتسبب بها الاختراقات التقنية الرئيسية، مدفوعا بسيناريوهات تقول إن الآلة تجلب منافع تتجاوز مضارها، وتوفر المزيد من الراحة وتلعب دور “المساعد” للإنسان.

منذ البداية أثار ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي في وسائل الإعلام الجديدة مناقشات وتساؤلات حول ما إذا كان استخدام التكنولوجيا في المجالات الإبداعية مثل الفن، أخلاقيًا أم لا؟

ونشرت الكاتبة جوانا ماسيجوسكا على موقع “إكس” تعليقًا قالت فيه: “هل تعرفون ما هي أكبر مشكلة في دفع الذكاء الاصطناعي في الاتجاه الخاطئ؟ أريد من الذكاء الاصطناعي غسيل ملابسي وأطباقي حتى أمارس الفن والكتابة، وليس أن يمارس هو فني وكتابتي حتى أتمكن من غسل ملابسي وأطباقي”.

ساعد الذكاء الاصطناعي في تسهيل الكثير من المهام، لكن المحادثات التي أثارها منشور جوانا لاقت انتباه مستخدمي منصة “إكس”. ومن المؤكد أن مخاوفها بشأن الذكاء الاصطناعي لاقت صدى بين أوساط الفنانين.

يبرز هنا خطر تنمية الذكاء الاصطناعي التوليدي، وغياب الإبداع الحقيقي، والتحديات في تحديد ما هو فن بشري. يصعب الحصول على معلومات حول مصدر عمل معين، وعما إذا كان من تأليف الشخص المكتوب اسمه.

كما كتبت جوانا عن توجه ديناميكيات الاعتماد البشري على الذكاء الاصطناعي بالإتجاه الخطأ؛ نتمتع نحن البشر بالسيطرة الكاملة وبحرية الاختيار مقرنة بالآلة، بينما تبقى قدرات التكنولوجيا حبيسة مجالات معينة، على الأقل في الوقت الحالي. لكن يجدر الأخذ في الاعتبار أن تطوير التكنولوجيا يحدث بسرعة فائقة.

جوانا ماسيجوسكا: أريد من الذكاء الاصطناعي غسل ملابسي لأمارس الكتابة
جوانا ماسيجوسكا: أريد من الذكاء الاصطناعي غسل ملابسي لأمارس الكتابة

يتطلب فهم العلاقة المعقدة بين البشر والذكاء الاصطناعي وجود إطار نظري. وتسلط الحتمية التكنولوجية الضوء على تأثير الآلة الكبير في تحديد البنية الاجتماعية والثقافية، ويفترض خبراء الحتمية التكنولوجية أن الآلة ليست مستقلة بطبيعتها. للبشر دور بارز وسيطرة على مسار تطورها واستخداماتها. وتفترض نظرية الحتمية التكنولوجية أن للآلة القدرة على خلق المزيد من التأثيرات التي تتجاوز إرادتنا، أو حتى تخالفها، مع التركيز على كيفية تأثير التكنولوجيا على تفكير الناس والعكس صحيح. يبرز هذا مع ظهور الذكاء الاصطناعي في المجالات الإبداعية، التي يمكن فهمها بشكل أكبر من خلال حجتين رئيسيتين. الأولى، يخلق الذكاء الاصطناعي تحولًا كبيرًا في قيم الفن. والثانية، يعدّ تدخل الذكاء الاصطناعي التوليدي في الفن شكلاً من أشكال الانتهاك الأخلاقي.

هناك خط واضح يميز بين القدرات البشرية وطريقة تفكيرهم مقارنة بقدرات الذكاء الاصطناعي المعروف بتبني خصائص سلوك شبيه بالسلوك الإنساني. ووفقًا للحتمية التكنولوجية، غيّر ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي على أرض الواقع القيم الثقافية والاقتصادية للعمل الفني.

استخدام الذكاء الاصطناعي في الفنون التطبيقية انطلق خلال سبعينيات القرن العشرين، حيث أصبح إنشاء الأعمال الفنية التي تتضمن عناصر من التعلم التجريبي البشري والتعلم الآلي بصفته نهجًا يتسم بتفاعلية أكبر وأكثر شيوعًا، إلى جانب زيادة سريعة في وضوح أهمية الذكاء الاصطناعي في مجتمع اليوم. وينتشر استخدام الذكاء الاصطناعي في أشكال مختلفة من الفنون (البصرية أو التطبيقية) بناءً على مقترحات أو سيناريوهات معينة يصوغها المستخدم. ويتم تحويل البيانات وتوليدها استجابة لأوامر، مما يبسط وسائل التعلم الآلي لتصبح العمود الفقري لتطوير الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي نما ببطء، وأصبح أقرب الأدوات المرتبطة بنمو الفن المعاصر في أواخر القرن العشرين وحتى اليوم. لكن خطابًا ساخنًا انتشر مؤخرًا حول مخرجات الأعمال الفنية غريبة المظهر التي تنتجها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

هناك من يرى أن الاعتماد بشكل كامل على الذكاء الاصطناعي في العمل الفني (الأتمتة الكاملة) يقلل من أهمية الجانب الإبداعي ويرفع من قيمته المادية التسويقية. وهذا ينطبق على استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة السينما والفنون التشكيلية والموسيقى ونصوص التمثيل، ويقدم تفسيرات مختلفة للقيم العاطفية والاجتماعية والثقافية عن تلك التي يتبناها البشر.

◄ استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، خاصة في الفن، يسهل خطر الانزلاق إلى ممارسات غير أخلاقية
استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، خاصة في الفن، يسهل خطر الانزلاق إلى ممارسات غير أخلاقية

وفي بعض الحالات، وهي ليست نادرة، خلّف الذكاء الاصطناعي آثارًا مدمرة على خلق فرص عمل للفنانين الرقميين، حيث “تهدد” التكنولوجيا الأدوار الإبداعية التي كانت حكرًا على البشر، مما يخلق إسقاطًا واضحًا الآن لمستقبل الذكاء الاصطناعي في الفن الرقمي. وهذا تأكيدًا إضافيا على أن إشراك الذكاء الاصطناعي في المجال الإبداعي لم يعد يهدف فقط إلى التخفيف في استعمال الأدوات الجمالية، ولكن لمعالجة القضايا المتداولة حول دور البشر ومكانتهم في واقع أيضًا، خاصة فيما يتعلق بقضايا التوظيف التي تثير الاهتمام على مستوى العالم. ويوضح هذا مدى قدرة التكنولوجيا على التأثير على مسار المشهد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي اليومي، بما يتجاوز وسائل تحسين التكنولوجيا التقنية.

استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، خاصة في الفن، يسهل خطر الانزلاق إلى ممارسات غير أخلاقية، كالتمييز والتحيز، ومطالبات حقوق النشر الكاذبة والنماذج المزورة لأعمال فنية، وتداخلت قضايا التأليف والملكية الفكرية بطبيعتها مع ظهور الذكاء الاصطناعي، مما سهل انتشار تأثيرات وتصورات ضارة مختلفة في صناعة الفنون.

وتثار مخاوف بشأن أخلاقيات معالجة البيانات تماشيًا مع العيوب التي حددها استخدام الذكاء الاصطناعي. ولا يعدّ حديث اليوم عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي كافيًا. بل تصبح الأخلاقيات نفسها العنصر الأساسي لقضايا الملكية الفكرية والتشكيلات التنظيمية.

تشمل الحالات ذات الصلة، سياسة التدريب التي تعتمدها منصة إنستغرام التابعة لشركة ميتا، والتي سبّبت غضب العديد من الفنانين. ويشارك حوالي 650 ألف فنان على إنستغرام في موجة ضخمة من الاحتجاجات لمقاطعة تطبيق الوسائط الاجتماعية منذ أن أطلق الموقع سياسة تدريب الذكاء الاصطناعي في يونيو 2024، حيث جمعت “بشكل غير أخلاقي” بيانات الأعمال الفنية من مشاركين مختلفين واعتبرتها مواد إضافية للمخرجات التي يصنعها الذكاء الاصطناعي.

اندلع احتجاج الفنانين على أحدث سياسة “إشكالية” تبنتها منصة إنستغرام، بذريعة تمتع الفنانين بالملكية الشرعية للأعمال الفنية التي صنعوها، والوقت والأفكار الإبداعية والخيال والجهد التي بذلوها في العمل الفني، بالإضافة إلى الرسائل المدروسة التي صُمم الفن لنشرها. ليست قضية الفنانين مقابل الذكاء الاصطناعي بسيطة كمشكلة الفنانين الذين “لا تقدرهم السياسة بما فيه الكفاية”. ولكن التقدم التكنولوجي الحالي أصبح شكلاً من أشكال القمع الحديث الذي “يجرد” العمال المبدعين من حقوقهم.

أكدت الطرق غير الأخلاقية لتحسين الذكاء الاصطناعي غياب الحوكمة على المستوى العالمي، وعجزها عن وضع لوائح بشأن حماية حقوق الملكية الفكرية، وعكست حاجة الحكومات المحلية في جميع الدول إلى تعزيز حماية حقوق الطبع والنشر “الضعيفة” على أعمال فنانيها المحليين، وعدم تشجيع الممارسات غير الأخلاقية المتمثلة في الاستفادة دون ضوابط من الذكاء الاصطناعي في مختلف أشكال الفن، حيث تضر التكنولوجيا بحقوق الفنانين والعمال المبدعين إذا لم تُنظّم.

مع تقدم العالم إلى عصر يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي يبرز نقاش مستمر حول آثار الذكاء الاصطناعي في المجال الإبداعي

مع تقدم العالم إلى عصر يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي يدور نقاش مستمر حول الآثار التي يخلفها الذكاء الاصطناعي على المجال الإبداعي. وبينما يرى البعض أنه يساعد الفنانين على تحسين أعمالهم، يقول آخرون إن تطويره في قطاع الفنون يعدّ شكلاً من أشكال الانتهاك الأخلاقي، ويقلل من جوهر العملية الإبداعية.

اليوم يمكن التمييز بين الفنون الناتجة عن الذكاء الاصطناعي وتلك التي ينتجها البشر. يعني هذا أن احتضان الذكاء الاصطناعي في الفنون يبقى أمرًا ممكنًا. يجب أن تُسنّ بالتالي حدود وتعريفات واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي الأخلاقي المسؤول، دون التقليل من “معنى” الفن نفسه. وهذا يتطلب من صانعي السياسات وضع خطة ملحّة ولوائح تضمن حقوق ملكية الفنانين الفكرية، وتحد من انتهاكات الشركات المطورة للذكاء الاصطناعي. وأصبحت هذه القضية مصدر قلق جماعي للجهات الفاعلة على مختلف المستويات، خاصة أن الذكاء الاصطناعي يجلب من فوائد أكثر مما يجلب من أضرار للبشر، شرط أن يتم توجيهه بشكل سليم.

 

اقرأ أيضا:

12