هلوسة منتجة
هل يمكن أن يكون هناك جنون مبدع؟ هل هناك هلوسة منتجة؟ هل يكون الأدباء مهلوسين يصوّرون جزءاً من جنونهم وهلوساتهم في أعمالهم ليخفّفوا من حدّتها وتأثيرها عليهم؟
يقترن الجنون بالإبداع في بعض المواقف، وهناك مقولة تزعم أنّ “بين العبقريّة والجنون شَعرة”، وهي ترمز وتشير إلى التداخل بين الرؤى التي تحاصر المبدعين وتقيّد أفعالهم وأفكارهم، أو تبقيها أسيرة تأويلات لا تخلو من غرائبيّة أحياناً.
هناك في التاريخ الشعريّ العربيّ فكرة رائجة عن وادي عبقر، وأنّه كان يشاع بأنّه كان لكلّ شاعر قرين من الجن، أو شيطان يملي عليه قصائده التي ينظمها وينشدها، وكأن الشعر فعل منبعث من قاع شيطانيّ، أو أن الشعراء يستنطقون الشياطين ويفصحون عما يجول في دواخلهم بطريقة إنسية، كما اشتهرت تسميات لشياطين الشعراء، وقصص عنهم وعن تعاطيهم وتأثيراتهم على أقرانهم.
المخفيّ والمضمر في حياة الأدباء يلعب دوراً في بلورة إبداعاتهم، وقد حاول الألماني ميشائيل مار في كتابه “مادلين الزائفة” قراءة ما وراء السطور التي خطها الكثير من الأدباء في أعمالهم التي حققت نجاحات كثيرة ونالت شهرة واسعة في أرجاء مختلفة. تحدّث عن الصوت الخفي الذي يسمعه الأديب في سرّه، وكيف أنه قد يكون ضرباً من ضروب الهلوسة المنتجة.
يذكر صاحب “فهود في المعبد” عدداً من الأدباء الذين عانوا في حياتهم من صور الهلوسة والمرض، كحالة فرانز كافكا (1883- 1924) الذي ظل يشكو من الأشباح والأرواح التي ظلت تلازمه، وكذلك جيمس جويس (1882-1941)، والإنكليزية فرجينيا وولف (1899-1941) التي أمكن معها تبين الخيط الرفيع بين العبقرية والمرض، وذلك من خلال صرخات الواقع المتهافت.
ويذكر أنّ فرجينيا كانت على مشارف الجنون ثلاث مرّات على الأقل، نتيجة لمعاناتها من الأصوات التي اعتادت على مطاردتها في صحوها. وعلى الرغم من أنها كانت عاجزة عن مواجهة هلوساتها، فقد ألزمت نفسها بإجراء احترازي، وهو اللجوء إلى الكتابة كلما انتابتها نوبة من نوبات الهلوسة.
كما يقول إنها كانت أصواتاً تدفعها إلى محاولات الانتحار، تجمع بين السخرية والصرامة والبذاءة، وأودت بها في النهاية بطريقة محزنة حين ألقت بنفسها في مياه نهر أوز.
يكتشف الدارس أثناء النبش في حياة بعض الأدباء شرارات مخفيّة لعبت دوراً في صياغة عوالمهم وشخصيّاتهم، ودفعتهم إلى هذه الوجهة أو تلك، ولعلّ بالإمكان التخمين أنّ في الجهة الأخرى من حائط الإبداع تكمن بعض الأسرار التي من شأنها إعطاء صورة أشمل عن المبدع وهلوساته المنتجة المحفّزة على البحث عن الجديد في ميدانه.
كاتب سوري