هشام عزالعرب: أزمة مصر الاقتصادية أبعد من شُح الدولار

عند شروعي في الكتابة عن المصرفي المصري هشام عزالعرب تذكرت موالاً صعيدياً غناه المطرب علي الحجار في نهاية تتر مسلسل “ذئاب الجبل” الشهير يقول “ولا بد عن يوم محتوم تترد فيه المظالم، أبيض على كل مظلوم، وأسود على كل ظالم”. وأنا لا أعلم لماذا استعادت الذاكرة هذا الموال، ربما لأن الرجل الذي خرج مطرودا من البنك التجاري الدولي منذ حوالي عامين عاد إليه مظفرا قبل أيام قليلة.
يمكن الوقوف عند سيرته من نواح عديدة يتقاطع فيها الشخصي مع العام، لكن يظل الجانب الذي تعرض فيه الرجل إلى ظلم أكثر جاذبية، حيث ينطوي على أبعاد إنسانية من تلك التي يطرب لها الجمهور، وربما لأن ما حدث معه يؤكد قاعدة رئيسية في الحياة، وهي أنه لا يصح إلا الصحيح في النهاية مهما طال الزمن، ويتجاهلها كثيرون الآن معتقدين أنهم على حق أو أن ذكاءهم يذلّل لهم صعوبة كشف المستور.
قصة الخروج والعودة
قصة خروج عزالعرب من البنك التجاري الدولي في أكتوبر 2020 بقيت محفورة في الذاكرة لدى المتابعين للشأن العام في مصر، حيث كان وقتها رئيسا لأهم بنك خاص في مصر وأكثر البنوك نجاحا وتحقيقا للأرباح، ولذلك فإن العودة إليه ليست قصة عادية مثل الكثير من القصص التي تواجهنا يوميا، لأنه أخرج من البنك من قبل رئيس البنك المركزي المصري السابق طارق عامر، والسبب الذي أعلن آنذاك هو قيامه بارتكاب مخالفات مالية ووجود تهم تتعلق بالفساد.
لم يعلن صراحة عن المخالفات ولم تُعرف معالم الفساد، وبقي كل ذلك قيد التكهنات والتخمينات، فلا رئيس البنك المركزي السابق أخبر البنك التجاري بها أو قام بإبلاغ جهات التحقيق القضائية عنها، وهو ما أفقدها جانبا كبيرا من مصداقيتها في الأوساط الاقتصادية، خاصة أن عزالعرب وقتها كان رئيسا لاتحاد بنوك مصر، في سابقة لم تحدث أن يتولى رئيس بنك خاص هذا المنصب، ما دل على شعبيته المصرفية.
وتكرر موقف العزل مع رئيس البنك العربي الأفريقي الدولي حسن عبدالله أيضا في وقت سابق، وتكمن المفارقة في أنه تم تكليفه من الرئيس عبدالفتاح السيسي في أغسطس الماضي بتولي منصب رئيس البنك المركزي بدلا من عامر الذي أقاله في واقعة شبيهة بتلك التي تعرض لها عزالعرب، وخاض بسببه معركة مع الجانب الكويتي الشريك الرئيسي في البنك العربي لتمرير قرار الإقالة.
وعقب قرار تنحيته كتب عزالعرب على صفحته الشخصية في فيسبوك ما أوحى -بطريقة غير مباشرة- بوقوف عامر وراء استبعاده، حيث قال “بالنظر إلى الوضع الحالي مع البنك المركزي المصري، فقد قررت أن الوقت قد حان لإنهاء رحلتي مع البنك التجاري الدولي. لقد كونت صداقات رائعة على مدار هذه السنوات، وسأعتز بهم كما أفعل”.
لم تكن تصاريف القدر وحدها التي أتت بحسن عبدالله رئيسا للبنك المركزي المصري خلفا لعامر، لكن أيضا رغبة الرئيس المصري في تصحيح بعض الأخطاء التي ارتكبت في مسار برنامج الإصلاح الاقتصادي، وتتمثل المفارقة في أن عبدالله كان من أول قراراته الاستعانة بالمصرفي عزالعرب مستشارا له.
ألغاز اقتصادية
مضت أربعة أشهر أو أقل، ثم أعيد الأخير إلى البنك الذي أقيل منه عنوة، في منصب عضو مجلس إدارة غير تنفيذي، وهي خطوة قد تكون مقدمة لإعادة تعيينه في منصب رئيس مجلس إدارة البنك الذي خرج منه “مطرودا” لاحقا.
يحفل قطاع البنوك في مصر بالكثير من اللوغاريتمات التي يصعب تفكيكها وفهم الألغاز التي تحيط بها، لأن البعد الشخصي فيها لا يقل أهمية عن البعد الموضوعي، فمن تابعوا قصة عزل عزالعرب حصروها في نطاق الخلافات الشخصية الشهيرة بينه وبين عامر، ومن تابعوا قرار عودته إلى البنك التجاري مؤخرا حصروه أيضا في إنصافه بأثر رجعي. ويقول مقربون من عزالعرب إن الرجل يتمتع بجرأة عالية في الإدارة وإبداء المواقف، ومنحته هذه الصفة رغبة في تطوير البنك التجاري الدولي الذي ترك بصماته عليه لتأكيد مكانة البنوك الخاصة في الاقتصاد المصري، والصمود في مواجهة العواصف، والقدرة على التصدي لمن حاولوا التقليل من قيمته كمصرفي ناجح.
وذكر أحدهم أن عامر عندما قرر الإطاحة به من رئاسة البنك التجاري كان الشغل الشاغل لديه تثبيت تهمة ارتكاب مخالفات ووجود إجراءات تتعلق بالفساد في البنك، كنوع من الإمعان في تشويه صورته وتقزيم مكانته في القطاع المصرفي برمته، لكنه أخفق في ترويج هذه الرواية وتثبيتها على مرأى من الرأي العام.
وقال آخر إن عزالعرب عندما شكك عامر في الجوائز الدولية المختلفة التي منحت له أثناء توليه مهام منصبه على رأس البنك التجاري الدولي، رد عليه بأن هذه الجهات هي التي تمنح شهادات التقدير لمحافظي البنوك المركزية في العالم، والتي حصل عليها عامر، فإذا كان عزالعرب يحصل على شهادات مشكوك في مصداقيتها، فإنه أيضا سوف تحاط به الشكوك.
تكشف هذه المواقف درجة التوتر التي بلغتها العلاقة بينهما بعد أن بدت هادئة حين تولى عامر مهام رئاسة البنك المركزي في نوفبر عام 2015، وتفسر أن التعاون بينهما كان من الصعب أن يستمر، لأن المسافات بينهما متباعدة، فأحدهما تتلبسه روح الصعيدي العنيدة، والآخر صاحب كفاءة ويعتز بها إلى أبعد مدى ويرفض التشكيك فيها، وعلى استعداد لدفع الثمن لأنه يستطيع التعويض من أماكن أخرى، استنادا إلى قاعدة أن صاحب الكفاءة لا يضيق به الحال ويستطيع إيجاد بدائل بسهولة.
تطوير هيكلي
تولى عزالعرب رئاسة البنك التجاري الدولي ومنصب العضو المنتدب خلال الفترة من 2002 إلى 2020، وهي فترة طويلة بمقاييس القطاع المصرفي بمصر، لكن لأن الرجل حقق نجاحات كبيرة فقد ضمن له ذلك تفهّم دواعي البقاء طوال هذه المدة، ولا يزال البنك يعيش على هذه الطفرة حتى اليوم، ويمكن أن تزداد بعد عودته، خاصة أنه بمجرد الإعلان عن العودة ارتفع سهم البنك في البورصة المصرية.
وتأتي حالة التعاطف في الأوساط المصرفية والشعبية مع عزالعرب من الشعور بأن هناك ظلما وقع عليه، وأنه كفاءة جرى إهدارها بسبب حسابات شخصية، وهي مسألة تحدث كثيرا في مصر، حيث أن أحد أسباب الأزمة التي تعيشها البلاد يكمن في تفضيل أهل الثقة على العلم والكفاءة، بما أدى إلى خلل هيكلي في الكثير من القطاعات قد يكون الاقتصاد أحدها وليس كلها.
وكشفت المعاني التي حملها تولي حسن عبدالله منصب القائم بأعمال رئيس البنك المركزي وعودة عزالعرب إلى البنك التجاري أن هناك رغبة في تصحيح الأخطاء من قبل الحكومة المصرية، واستعدادا للاستفادة من الكفاءات، حيث تفتح هذه النوعية من الخطوات باب الأمل لمن ظلموا أو سلبت منهم حقوقهم المادية والمعنوية.
ومنذ أن عمل عزالعرب في قطاع البنوك عام 1977 بعد حصوله على بكالوريوس التجارة من جامعة القاهرة وهو يحظى بسيرة عطرة وسط مقربين وبعيدين، ولم تفلح كل الشكوك التي أحيطت به عمدا في النيل من سمعته، ولعل الفرحة الكبيرة الظاهرة بعودته تعكس المدى الذي يحظى به الرجل من احترام على مستويات مختلفة.
يكفي أنه، ومنذ تنحيته من منصبه قبل عامين، لم يتعرض بالتجريح لمن قيل إنهم أوقعوا عليه ظلما بيّنا، ولم يأت على ذكر اسم رئيس البنك المركزي السابق خيرا أو شرا، وهي من المزايا التي يتمتع بها رجال الدولة، ومن أكثر الأوصاف التي باتت تلصق به عندما تأتي سيرته وسط تجمع مصري معني بالاقتصاد هي أنه مسؤول ورجل دولة بجانب أنه مصرفي شاطر.
منحته هذه الصفات مكانة رمزية بالنسبة إلى اقتصاد يعاني من أزمات كبيرة حاليا، والتي لا يختزلها في مسألة شح الدولار، فقد أدلى بتصريحات لأحد البرامج التلفزيونية قبيل حدوث التعويم الثالث للجنيه المصري مؤخرا أكد فيها أن الأزمة أبعد من النقص الحاصل في العملات الأجنبية، وتتجاوز حدود انخفاض أو ارتفاع قيمة الجنيه أمامها، لأن الإصلاح لا يقوم على قيمة العملة المحلية.
ويعتقد أن الإصلاح الاقتصادي عملية متكاملة تحتاج إلى وضع رؤى وخطط لإخراجه من عثراته المتراكمة عبر التوسع في الإنتاج وتنويع مصادر الدخل وتقليل الاستيراد وزيادة التصدير، ومن الخطأ اختزال الأزمة في توفير الدولار الذي يمكن توفيره من مصادر مختلفة، غير أن العبرة بمستوى التحسن الحاصل في جميع هياكل الاقتصاد بالتوازي ومن خلال دراسات جدوى تراعي المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها في أي لحظة، بما يمنحه مناعة قوية في مواجهة التحديات.
ويشير البحث في سيرة عزالعرب الشخصية والعامة إلى أنه يجسد المدى الذي يمكن أن تصل إليه الأزمات عندما تدار الأمور بصورة شخصية وبهذه الطريقة، وتتجاهل المكونات الوطنية في إدارة أحد أهم القطاعات التي أصبحت أشبه بالقاطرة التي تجر خلفها جميع العربات الحيوية في الدولة.

◘ رغبة السيسي بتصحيح مسار الإصلاح الاقتصادي، قادت إلى الاستعانة بعزالعرب مجدداً