هذا صراع لا يمكن أن ينتهي بمنتصر ومهزوم

حماس لم تهاجم إسرائيل في السابع من أكتوبر لتحقيق نصر عسكري بالمفهوم التقليدي فهي تعلم أن ذلك مستحيل حتى بمساندة أطراف أخرى..  ما أرادته حماس هو إخراج القضية من حالة الثبات.
الأربعاء 2023/10/25
حرب لا يمكن الانتصار فيها

هل تكون هناك حرب برية في قطاع غزة، أم لا تكون؟ وإن كانت هناك حرب برية ودخلت إسرائيل القطاع بمشاتها ومدرعاتها، ما هو موقف طهران حينها؟

السؤال مطروح حاليا في كل مكان، وعلى مختلف المستويات.

أثبتت طهران خلال أربعة عقود أنها تعرف جيدا كيف تختار خصومها، وتعرف كيف تختار اللحظة والطريقة المناسبة لتوجيه ضرباتها. ولطالما تكلمت بلسانين، لسان موجه لدول المنطقة في الشرق الأوسط، ولسان آخر موجه للغرب وإسرائيل.

الغرب اليوم ومعه إسرائيل أصبح يجيد التمييز والتفريق بين اللسانين. في بداية الأزمة التي تسبب بها هجوم حماس على إسرائيل حذرت إيران على لسان وزير خارجيتها المسؤولين الإسرائيليين علنا وبلهجة شديدة: أوقفوا هجومكم على غزة وإلا سنضطر إلى اتخاذ إجراء. بالطبع لم يحدد ما هو الإجراء، ترك ذلك لمخيلتنا.

◙ الهجوم الإسرائيلي على غزة وقتل المدنيين من أطفال ونساء وقطع المياه والكهرباء عن سكانها، كلها عوامل أحيت القضية الفلسطينية بعد أن تعرضت لحالة وفاة سريرية

بعد ذلك، وبفارق ساعات قليلة، خففت إيران من حدّة لهجتها على لسان مندوبها في الأمم المتحدة مطمئنة العالم أنها لن تتدخل في الصراع طالما أن إسرائيل لم تهاجم مصالحها أو مواطنيها. مرة أخرى يترك لنا المسؤول الإيراني تحديد ما هي المصالح الإيرانية.

لم يأت التناقض في التصريحات نتيجة عدم تنسيق أو تسرع، بل هو تناقض مدروس ومخطط له. كما هو الحال دائما مع تصريحات المسؤولين في طهران.

التحذير واللهجة الحادة هي للتسويق محليا ولمواطني دول المنطقة، الذين انتظروا أربعة عقود أن تنفذ إيران تهديداتها وتلحق الهزيمة بإسرائيل وتحرر الأقصى، رغم ذلك لم ينفد صبرهم بعد.

أما اللغة الدبلوماسية الهادئة فلها زبائن آخرون، من بينهم واشنطن وتل أبيب.

كيف ستتطور الأمور على الأرض، وأي نهاية للصراع ستكتب، وما تأثير هذا على إيران وعلاقاتها بدول المنطقة والجوار؟ والأهم من هذا كله كيف تخطط إيران للتعامل مع كل نهاية من هذه النهايات؟

هناك ثلاثة خيارات أمام طهران في حال غامرت إسرائيل ونفذت هجوما بريا داخل غزة: الأول، أن تكتفي بموقف المتفرج. والثاني، أن تحرض حزب الله على الدخول نيابة عنها في مواجهة محدودة مع إسرائيل من خلال تصعيد هجماته، على أن تبقى في حدود استعراض للقوة لا غير.

أما الخيار الثالث، وهو خيار انتحاري، أن تدخل في مواجهة مباشرة مع إسرائيل تعلم مسبقا نهايتها الكارثية، خاصة مع الوجود العسكري المكثف للولايات المتحدة في البحر المتوسط والمنطقة.

الخيارات الثلاثة وفق المحللين نتائجها ستكون وخيمة على طهران. أو هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى على الأقل.

الشيء الوحيد المؤكد هو أن إيران لن تدخل مباشرة في الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس، حتى لو توسعت رقعة الصراع وشملت أطرافا أخرى، أو مهما تسارعت الأحداث لاحقا، فهي تعلم أن ذلك سيكون نهاية سطوتها، وأن كل الجهود والمساعي التي بذلتها ومازالت تبذلها لفرض سيطرتها على المنطقة ستذروها الرياح.

◙ هذا صراع لا يمكن أن ينتهي بمهزوم ومنتصر.. وهذا أمر تدركه إيران وحماس جيدا. فقط أخرق مثل بنيامين نتنياهو يعتقد أن بإمكانه تحقيق النصر

قرار عدم التدخل في الصراع مباشرة ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة تفكير عميق مخطط له منذ البداية. وهو قرار تدركه حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله. وهذا ما أكده وحيد جلال زاده رئيس لجنة الأمن القومي بالبرلمان الأربعاء الماضي بقوله “إننا على اتصال مع أصدقائنا حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله.. وموقفهم هو أنهم لا يتوقعون منا تنفيذ عمليات عسكرية”.

هل يمكن أن نستنتج من هذا كله أن إيران في ورطة، وأنها غامرت بجهود سنين، لترى ما بنته يهدم ويضيع من بين يديها؟

الأفضل أن لا نتسرع بالوصول إلى استنتاج مثل هذا. ما يرى فيه البعض علامة ضعف وجبن يرى فيه آخرون، خاصة الجماعات الحليفة التي تكتفي بالدعم المقدم من طهران، حكمة. أو هو عملا بقوله تعالى “وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ”.

من وجد نفسه في ورطة اليوم هو إسرائيل التي استدرجت إلى المواجهة لترى نفسها في وضع لن تخرج منه منتصرة. إنها في وضع الانتصار العسكري فيه هزيمة ما لم يترجم إلى حل سلمي دائم.

أقصى ما تستطيع إسرائيل عمله هو أن تبحث عن طريقة للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع عدوها اللدود حماس دون أن تريق ماء وجهها.

حماس اليوم في وضع رابح/رابح مهما كانت النتيجة. يكفي أن نتابع مشاهد المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين التي عمت مدن وعواصم العالم لنتأكد من ذلك.

الهجوم الإسرائيلي على غزة وقتل المدنيين من أطفال ونساء وقطع المياه والكهرباء عن سكانها، كلها عوامل أحيت القضية الفلسطينية بعد أن تعرضت لحالة وفاة سريرية ظن معها بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل اليميني المتطرف الذي حكم أطول مدة، أن بإمكانه أن يعلن وفاة قضية العرب الأولى.

نتنياهو يتبع نفس أساليب الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي حاصرت غزة وتركت السلطة الفلسطينية تضعف وتتفكك دون وجود أي نوايا حقيقية لاستكمال طريق أوسلو والوصول إلى نتيجة تضمن ما يرضي الفلسطينيين ولو بالحد الأدنى. وفي اللحظة التي تهيأ فيها نتنياهو لإعلان وفاة القضية الفلسطينية، انتفضت غزة.

حماس لم تهاجم إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر لتحقيق نصر عسكري بالمفهوم التقليدي، فهي تعلم أن ذلك مستحيل، حتى بمساندة أطراف أخرى.. ما أرادته حماس هو إخراج القضية من حالة الثبات.

◙ الشيء الوحيد المؤكد هو أن إيران لن تدخل مباشرة في الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس، حتى لو توسعت رقعة الصراع وشملت أطرافا أخرى، أو مهما تسارعت الأحداث لاحقا

نجحت حماس بمسعاها، ولو كان ذلك بثمن. ولكن من قال إن النصر يتحقق دون ثمن أو بثمن زهيد؟

لم تنتصر أوروبا على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية دون ثمن. في الحقيقة الثمن كان باهظا جدا 55 مليون قتيل، ويقول البعض إن الرقم هو 80 مليونا. ورغم ذلك قبل بدفعه الأوروبيون.

ومن يعتقد أن 5000 قتيل أو حتى 20 ألف سيوهن من عزيمة الفلسطينيين عليه أن يلقي نظرة على أعداد ضحايا الهجوم الألماني على بريطانيا. العاصمة لندن وضواحيها فقط دفعت 40 ألف قتيل، ودمر القصف الألماني أكثر من مليون منزل من منازلها. في المحصلة خسرت بريطانيا أكثر من 300 ألف من سكانها خلال الحرب العالمية الثانية.

وبعد أن كاد العالم ينسى شيئا اسمه القضية الفلسطينية، وينسى غزة بالتحديد، خاصة خلال السنوات الأربع الأخيرة التي بدأت بجائحة كورونا وصولا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، ها هي أخبار غزة تقفز من جديد لتحتل المساحة الأكبر، ليس فقط على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، بل أيضا في ساحات المدن الكبرى.

هذا صراع لا يمكن أن ينتهي بمهزوم ومنتصر.. وهذا أمر تدركه إيران وحماس جيدا. فقط أخرق مثل بنيامين نتنياهو يعتقد أن بإمكانه تحقيق النصر.

9