نوبل للسلام لصانع السلام في إثيوبيا

كل من تابع مسيرة آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، الذي لم يتجاوز العام ونصف العام منذ تقلّده لمنصبه، توقع له أن يحتل مكانة عالمية مرموقة. وجاء إعلان حصوله على جائزة نوبل للسلام الجمعة، ليعزز هذه القناعة، حيث أضحى السلام من العلامات البارزة في تحركاته الداخلية والخارجية. وحقق على الصعيدين تقدما نوعيا خلال فترة قصيرة، بما فتح أمامه الكثير من الأبواب المغلقة ليكون رجل أفريقيا القوي الفترة المقبلة.
يمتلك رئيس وزراء إثيوبيا الشاب (43 عاما) كاريزما شخصية مدعومة بكثير من المؤهلات التي جعلت عملية صعوده لهذا المقعد مقبولة من جهات كثيرة، لكن بالطبع لا تخلو من تحديات جسيمة. ففي دولة تتشكل من موزاييك اجتماعي وعرقيات مختلفة تاريخيا لن يكون سهلا على أي حاكم صهر جميع المكونات المتنافرة في بوتقة وطنية واحدة، ما جعله يخلع مبكرا عباءة قوميته الأورومو، ويتعامل مع الناس بصفته مواطنا لديه مشروع لإنقاذ البلاد من التناحرات التي نخرت جسدها، وحالت دون الاستفادة من إمكانياتها وطموحاتها الاقتصادية.
انشغل آبي أحمد بتفكيك عقدة السلام على المستوى الداخلي، والدخول في تسويات سياسية على الصعيد الخارجي. ولعبت في الثانية دولة الإمارات العربية المتحدة دورا بارزا لتعميمه وربطه بالتنمية الغائبة عن منطقة أنهكتها الحروب بالوكالة والنزاعات الداخلية.
ويبدو خط السلام من العوامل الرئيسية لفهم شخصية آبي أحمد، والتي منحته مكانة رفيعة وسط الإثيوبيين وجيرانهم، لأنه لمس الوتر-المفتاح الذي يفك شفرة المعارك التي دخلتها إثيوبيا بسبب منطقي أو دون سبب أصلا، وعزم على ضرورة إحلال السلام، بما جذب إليه أنظار جهات كثيرة.
واتبع الرجل خطة متوازية تساوي بين السلام في الداخل والمحيط الإقليمي الحافل بصراعات متشابكة، لأن كلاهما مرتبط بالآخر. ومن الصعوبة أن يتحقق الأول بعيدا عن الثاني، والعكس. وفي بيئة مليئة بالحروب الممتدة والعابرة للحدود تستلزم عملية الإطفاء أن يحمل أصحابها رؤية واضحة ومحددة ولها قابلية للتنفيذ وقدرة على تجاوز المعوقات التي قد تحول دون الوصول للأهداف المرجوة.
آبي أحمد والداعمون له، كانوا على ثقة أنه “الرجل الضرورة” في هذه المرحلة التي بدأت تتآكل فيها البلاد من كثرة التوترات الداخلية وتتصاعد فيها النزاعات في الدول المجاورة، وتنتشر فيها المجاعات التي أوشكت أن تهدد التماسك الهش للدولة وتقضي على فرص استعادة لحمتها، فلم تنجح معها جميع المسكنات السياسية التي اتبعتها حكومة ملس زيناوي ومن بعده هيلي ماريام ديسالين.
وعندما انزلقت إثيوبيا إلى ما يشبه الفوضى في فبراير 2018، أعلن رئيس الوزراء هيلي ماريام ديسالين استقالته بشكل مفاجئ. ولم يكن أحد يعلم عن آبي أحمد الرجل الذي سيخلفه في رئاسة الحكومة بعد نحو شهرين. غير أن الصفات التي يحملها مهدت الطريق أمامه، وسهلت عملية تقبله من غالبية القوى السياسية والعرقية. حتى المختلفون معه والرافضون له لم يتمكنوا من هز الأرض من تحت أقدامه، فقد تمكن من جذب قطاع عريض من الشباب، كان يحلم بطوق للنجاة.
ينتمي آبي لقبيلة الأورومو التي تشكل ثلث سكان إثيوبيا البالغ عددهم مئة مليون نسمة، وتشتكي دوما من التهميش الاقتصادي والثقافي والسياسي، لحساب هيمنة قبيلة التيغراي. وهو يحمل شهادة ماجستير في القيادة التحولية والتغيير ودكتوراه في دور الوساطة في النزاعات. وربما تكون هذه التخصصات واحدة من أسرار اهتمامه بالتنمية والسلام والرغبة في حل النزاعات في المنطقة.
كان آبي أحمد ضمن قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام العاملة في رواندا، ثم ترأس وكالة الأمن الإلكتروني الإثيوبية، وعمل كوزير للعلوم والتكنولوجيا لفترة محدودة، قبل أن يصبح نائب رئيس منطقة أوروميا التي ينحدر منها، وانخرط بقوة في عالم السياسة منذ ثماني سنوات من خلال تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية التي قبضت على الحكم منذ بداية التسعينات في القرن الماضي.
وتساعد الهويات المختلطة لرئيس وزراء إثيوبيا في فهم حرصه على تعزيز العلاقات بين المجموعات العرقية المتنوعة، فأبوه مسلم ووالدته مسيحية، ويجيد لغة الأورومو والأمهرة والتغرينية، وهي القوميات الرئيسية في البلاد، فضلا عن الإنكليزية. ووفرت له هذه الخصال فرصة جيدة للانفتاح على الداخل والخارج، عززها بجملة من الممارسات الإيجابية التي غابت كثيرا عن البلاد، وأبرزها الربط بين التعاون في مجالات التنمية والسلام.
وحلمت الشعوب الإثيوبية طويلا بالحصول على زعامة تستطيع تخفيف حدة الخلافات العرقية التي منعت توظيف المكونات الهائلة، ووضعت إثيوبيا في خندق قاتم، بعد أن كانت هناك مؤشرات كثيرة تتفاءل بقدراتها على أن تحتل مكانة واعدة في أفريقيا، والرهان عليها كبؤرة ضوء تنير الفضاء لكثير من الاقتصاديات الأفريقية الخاملة.
وبعد توليه بفترة قصيرة، أطلق سراح الآلاف من السجناء السياسيين، وقوّض الرقابة على وسائل الإعلام، ورفع حالة الطوارئ أولا، وفتح قطاعات اقتصادية رئيسية أمام المستثمرين. وبدأ معدل النمو يستعيد عافيته، حيث شهد تراجعا خلال السنوات العشر الماضية.
وعززت هذه الخطوات الثقة فيه من جانب دوائر عربية وغربية متباينة، وأخذت تلتفت إلى أن هناك ركيزة يمكن الرهان عليها لتوفير الأمن والاستقرار الغائبين في منطقة القرن الأفريقي، وتمثل إثيوبيا رأس الحربة فيهما. فإذا نجحت في جلب السلام وربطه بتنمية شعوبها سوف يصبح المجال ممهدا لمن حولها.
أدرك رئيس الحكومة الإثيوبية أن تفوقه في قيادة البلاد يبدأ من قدرته على إقناع المواطنين على تخفيف النعرات القومية، ولذلك حرص على توجيه خطابه للشعوب كافة، بلا تفرقة بين انتماءات شخصية ووطنية.
وفي أغسطس من العام الماضي خاطب حشدا شبابيا إثيوبيا في ولاية مينيسوتا الأميركية قائلا “إذا كنت تريد أن تكون فخرا لجيلك، فعليك أن تقرر أن أورومو وأمهرا وولايتا وغوراغز وسيليت كلها إثيوبيا”.
وثمة عوامل عديدة جعلته محورا رئيسيا في أحاديث الإثيوبيين وغيرهم، بينها شخصيته القوية وطموحه العريض وتجاوبه مع تطلعات المواطنين في البحث عن حياة أفضل والتكاتف والتلاحم حول مشروعات قومية تنهي أو تحد من حالة التفكك، لكن هناك ميزة ربما لم ينتبه إليها البعض، وتتعلق بتحويله إلى منقذ أو قديس جاء لنجدة إثيوبيا، ومدعوم من دوائر كثيرة في الداخل والخارج، بالتالي من الطبيعي أن يحقق تقدما في القضايا التي يقترب منها.
وقال الصحافي البريطاني توم غاردنر، الذي يقيم في أديس أبابا، إن هناك حماسة “دينية” لما أطلق عليه اسم الهوس بآبي أحمد، “الناس يتحدثون بصراحة عن رؤية ابن الله أو نبي”، وفقا لتعبيرهم. ربما تكون هذه مبالغة، غير أنها تكشف في جوهرها عمق التعلق بالرجل والتعويل عليه في قضية السلام الصعب وتصفير الأزمات مع الخارج دون المساس بالثوابت الوطنية.
السلام مع إريتريا
بدأت النبوءة تتحقق مع الخطوة الكبيرة التي قطعها مع إريتريا في الأشهر الأولى لحكمه، وتمكنه من وقف الحرب معها، وإنهاء مرحلة طويلة من التوتر كلفت البلدين خسائر باهظة. ويمكن أن تكون نواة لانفتاح إقليمي تجني منه أديس أبابا مكاسب متعددة.
عن هذا السلام، أوضح آبي أحمد أن المساعدة في هذا الشأن جاءته من عدة قيادات دولية، وخصّ بالذكر الشيخ محمد بن زايد الذي وصفه بأنه “يحظى بقوة تأثير كبيرة في أسمرة.. وواحدة من كبرى أولويات ولي عهد أبوظبي هي تحقيق السلام بين إريتريا وإثيوبيا”.
فتحت هذه الخطوة العميقة الأبواب المغلقة للتقارب مع كل من الصومال وجيبوتي والسودان، وتوطيد العلاقة مع جنوب السودان، وكلها قامت على قواعد تستمد قوتها المتينة من المشروعات التنموية المتكاملة التي دخلت على خطوطها دولة الإمارات العربية المتحدة، ونسجت شبكة من الروابط جعلت التنمية شرطا للسلام بدلا من الحرب وانتشار الإرهاب في المنطقة، الأمر الذي لقي تجاوبا من القيادة الإثيوبية، وحضها على مواصلة التحرك في محيطها من أجل ترسيخ السلام ودعم التنمية.
ولعب آبي أحمد دورا مهما في تسهيل عملية المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في السودان، حتى وصل الطرفان إلى توقيع الإعلانين السياسي والدستوري اللذين مهدا الطريق لتشكيل حكومة مدنية في الخرطوم. وعزز هذا التحرك مكانة رئيس وزراء إثيوبيا كصانع للسلام في منطقة تعج بالأزمات، بعد أن قطع شوطا لفت أنظار العالم إليه، وجعله يستحق جائزة نوبل للسلام.
كل هذه النجاحات لا تعني أن الرجل دانت له الأمور تماما أو بلا منغصات، بل تضع على كاهله عبئا يستوجب الدفاع عن مشروعه للتنمية والسلام، لأن هناك من يتربصون به، وليس من مصلحتهم استمرار صعوده وتبديل المعادلات والتوازنات الداخلية والإقليمية بأريحية.
وتعرض آبي أحمد لمحاولة انقلاب فاشلة في يونيو الماضي، وغير مستبعد أن يواجه محاولات أخرى. فما قام به هدم معابد على رؤوس قوى تقليدية تضخمت وشاخت في مقاعدها، وعلى استعداد للمقاومة حتى آخر نفس، ما فرض عليه إجراء تغييرات داخلية تدريجية ومحسوبة لتمرير عملية الانتقال بسلاسة، وتحقيق معدلات تنموية سريعة ليتأكد الناس من صدق خطواته، وحضهم على الالتفاف حول مشروعاته القومية، وفي مقدمتها مشروع سد النهضة.
ولم ينجر آبي أحمد للدخول في تراشقات مع مصر المعترضة على جوانب فنية في المشروع، والتي هنأه رئيسها عبدالفتاح السيسي على الفور بحصوله على جائزة نوبل للسلام. ولم يظهر رئيس الوزراء استعدادا لتقديم تنازلات في الخطة المعلنة من قبل بلاده بشأن السد. وهو الاختبار الذي عليه أن يجد مخرجا مناسبا وناعما له كمساهم رئيسي في السلام والتنمية في المنطقة وأمين عليهما لدى الشعوب الإثيوبية.