نهر دجلة يحتضر، ومعه حياة الصيادين العراقيين

تقلص الصيد والعائدات المتأتية منه يثير غضب الصيادين في بغداد.
الجمعة 2022/11/25
التلوث والجفاف يهددان قوت العراقيين

جف نهر دجلة، أحد رافدي العراق، وبات جفافه يثير فزع العراقيين، وخاصة منهم الصيادين، من خطورة ما آلت إليه أوضاع الثروة المائية، حيث لم يعد بإمكانهم صيد الأسماك وتأمين حياتهم وقوت عائلاتهم.

بغداد - تنامت في الفترة الأخيرة شكاوى صيادين في العراق من الانخفاض الهائل لمنسوب المياه في نهر دجلة، الأمر الذي أثّر على حياتهم وعملهم بشكل كبير.

يخرج الصيّاد العراقي أحمد حسن ليلو من كوخه على ضفاف نهر دجلة في قلب بغداد كل صباح عند شروق الشمس وينتابه الحزن، حيث لم يعد النهر العظيم الذي كان يتعرج أمام منزله كما كان من قبل. وأصبحت مياهه المتدفقة موحلة وفاتحة بعد أن استنفدها الجفاف المدمر والسدود الملوثة بمياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية.

تعلّم ليلو الصيد من والده عندما كان في الثامنة من عمره، لكن مصدر دخله الرئيسي اليوم لا يأتي من صيد الأسماك وإنما من نقل الناس من أحد جانبي النهر إلى الجانب الآخر في قاربه الصغير. وقال الرجل البالغ من العمر 56 عاما لمؤسسة تومسن رويترز “كان هذا أسوأ عام في حياتي. مات النهر وماتت أرزاقنا معه”.

وأصبح العراق، الذي يعاني من أسوأ جفاف منذ عقود، من بين البلدان الخمسة الأولى الأكثر تضررا من تغير المناخ في جميع أنحاء العالم ويحتل المرتبة 39 من حيث الإجهاد المائي، وفقا للأمم المتحدة.

وقال مستشار حكومي في أواخر سبتمبر الماضي إن هذا العام كان الأكثر جفافا في البلاد منذ 1930، مما أدى إلى استنزاف النهرين الرئيسيين في البلاد دجلة والفرات وتأجيج المنافسة على المياه مع الدول المجاورة.

تلوث السدود

معتز الدباس: عندما تنخفض كمية المياه في نهر دجلة يرتفع التلوث
معتز الدباس: عندما تنخفض كمية المياه في نهر دجلة يرتفع التلوث

تتقاسم أربع دول حوض نهر دجلة، ثاني أكبر نهر في غرب آسيا بعد نهر الفرات، وهي العراق وإيران وسوريا وتركيا. ويوجد 14 سدا على طول مجراه، وتضغط مشاريع الري والطاقة الكهرومائية على تدفقاته، وفقا لتقرير أعدته وكالات الأمم المتحدة عن الموارد المائية المشتركة في غرب آسيا.

وينبع نهر دِجْلَة من جبال طوروس، جنوب شرق الأناضول في تركيا، ويعبر الحدود السورية – التركية، ويسير داخل أراضي سوريا بطول 50 كيلومترا تقريباً، ليدخل بعد ذلك أراضي العراق عند قرية فيشخابور. ويتفرع دجلة إلى فرعين عند مدينة الكوت هما نهر الغراف والدجيل.

كان نهر دجلة يلتقي بنهر الفرات عند القرنة في جنوب العراق بعد رحلته عبر أراضي العراق ليكوّنا شط العرب الذي يصب في الخليج العربي، ولكن تغير مجرى الفرات في الوقت الحاضر وأصبح يلتقي بنهر دجلة عند منطقة الكرمة القريبة من البصرة، ويبلغ طول مجرى النهر حوالي 1718 كيلومترا ومعظم مجراه داخل الأراضي العراقية بطول 1400 كيلومتر تقريبا، وتصب فيه خمسة روافد بعد دخوله الأراضي العراقية وهي: نهر الخابور والزاب الكبير والزاب الصغير والزاب العظيم ونهر ديالى.

تجلب هذه الروافد إلى النهر ثلثي مياهه. أما الثلث الآخر فيأتي من تركيا ويصب آخر رافد في دجلة، وهو نهر ديالى جنوب بغداد بمسافة قصيرة. ثم يتعرج ويتهادى بالتدريج حتى يصل إلى أرض منخفضة ومنبسطة ليلتقي بنهر الفرات. توجد أكثر أراضي العراق خصوبة في المنطقة القريبة والواقعة بين نهري دجلة والفرات، ويوفر النهران المياه اللازمة للري.

ويقول المسؤولون العراقيون إن تدفقات الأنهار المنخفضة من المنبع في الجارتين، إيران وتركيا اللتين تبنيان سدودا لتخفيف نقص المياه، تزيد المشاكل المحلية مثل التسربات والأنابيب القديمة وسحب الإمدادات بشكل غير قانوني.

ولم تتمكن أنقرة وبغداد من الاتفاق على كمية ثابتة من معدل التدفق لنهر دجلة. وتبقى تركيا ملزمة وفق اتفاق 1987 بإطلاق 500 متر مكعب في الثانية باتجاه سوريا التي تقتسم المياه مع العراق بعد ذلك.

لكن أنقرة لم تف بالتزاماتها في السنوات الأخيرة بسبب انخفاض مستويات المياه، وترفض أي اتفاقيات تقاسم مستقبلية تجبرها على إصدار رقم ثابت.

ويفرض الطلب المتزايد على المياه في بغداد، المدينة المتنامية التي يبلغ عدد سكانها حوالي 8 ملايين نسمة، المزيد من الضغط على الموارد المتضائلة، في حين أن محطات المعالجة غير متوفرة، وفقا لتقرير صادر عن جامعة بغداد في 2022.

وقال معتز الدباس، وهو من معدي التقرير، “عندما تنخفض كمية المياه يرتفع التلوث”. وقال التقرير إن التلوث الناجم عن مياه الصرف الصحي غير المعالجة وإلقاء الفضلات يشكل تهديدا إضافيا للأسماك والحياة البرية الأخرى في نهر دجلة حول بغداد.

وفي 2018 لفظ نهر الفرات آلاف الأطنان من أسماك المياه العذبة التي تشكل أساس أحد أشهر الأطباق في البلاد، بسبب المستويات العالية من البكتيريا والمعادن الثقيلة والأمونيا في المياه.

وقال الدباس “نحن ندعو إلى تنقية كل هذه المياه قبل أن تصب في الأنهار”. وقالت وزارة البيئة العراقية في سبتمبر الماضي إنها ستشكل لجنة لتقييم تلوث المياه في البلاد. ولم يرد مسؤول بوزارة الموارد المائية على طلبات للتعليق.

ظروف معرقلة للأعمال

التلوث الناجم عن مياه الصرف الصحي غير المعالجة وإلقاء الفضلات يشكل تهديدا إضافيا للأسماك والحياة البرية الأخرى
التلوث الناجم عن مياه الصرف الصحي غير المعالجة وإلقاء الفضلات يشكل تهديدا إضافيا للأسماك والحياة البرية الأخرى

في سوق الشواكة للسمك ببغداد يشعر أصحاب الأكشاك، والكثير منهم من الصيادين، بالقلق على مستقبل النهر وسبل عيشهم.

وقال بكر علي البالغ من العمر 48 عاما، والذي يبيع لوازم الصيد في متجره وسط السوق، إنه قضى مؤخرا ثماني ساعات في النهر دون أن يصطاد أي شيء. وتابع، معربا عن أسفه لتراجع المبيعات بنسبة 90 في المئة في متجره مقارنة بالعام الماضي، “لقد تضررنا جميعا. عندما يعاني الصيادون نعاني جميعا”.

وترفرف أسماك النهر التي اصطيدت حديثا في برك مؤقتة من صناديق البوليسترين البيضاء، المخصصة لمطاعم سمك المسكوف الشهيرة في المدينة.

والمسكوف هو طبق يضم سمك الشبوط المشوي، وغالبا ما يكون الوجبة الأولى التي يُشجّع زوار البلد على تجربتها. ولكن مع انخفاض مستويات المياه يخشى الكثيرون أن تختفي الأسماك من أنهار البلاد واستبدالها بسمك مستزرع أقل قيمة.

وقال علي “كان العام الماضي أسهل، وكان العام الذي سبقه أسهل”، مضيفا أن الكثير من أقاربه تركوا الصيد بالفعل. وتابع “لا يوجد ماء ولا سمك”. ينحدر صادق (53 عاما) الذي طلب عدم الكشف عن لقبه من عائلة من الصيادين، لكنه لم يخرج إلى الصيد منذ ما يقارب عقدا من الزمان.

وكان جالسا خلف طاولة بلاستيكية بيضاء في متجر لوازم الصيد الذي يمتلكه حينما تحدث إلينا. واعتبر فشل الحكومة في معالجة المشكلة سبب الأضرار التي لحقت بالبيئة، ولذلك قرّر التخلي عن الصيد بعد تراجع مبيعاته. وقال “نقضي يوما كاملا دون بيع أي شيء. لا يمكننا تحمل العيش هكذا بعد الآن”.

7