نماذج قوة جديدة تظهر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الانقسام العربي حول قضايا المنطقة كسر قواعد الإجماع المفترضة وأدى إلى مسار التطبيع مع إسرائيل.
الأربعاء 2020/11/11
المتغيرات تفرض تأسيس تحالفات استراتيجية

تعج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالعديد من الاضطرابات، وبالتحديد داخل الدول العربية، وقد أفرزتها السياسات الأميركية بعنوان “الربيع العربي”. ومع بلوغ الفوضى مراحل متقدمة من العنف وانسداد الأفق أمام أي تسويات وتفاهمات، وذلك بالنظر إلى صراع المصالح بين كبار الفاعلين على الساحة، فإن اتفاقيات تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين دول خليجية وإسرائيل حركت بوادر ظهور ثلاثة محاور إقليمية ما قد يزيد من تعقيد المشهد المعقد بطبعه.

لندن - يقف الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد سنوات من الاضطراب وعدم الاستقرار على أعتاب مرحلة أكثر حساسية، في أعقاب اتفاقيات التطبيع العربية الأخيرة مع إسرائيل، والتي ستفضي إلى ولادة محاور إقليمية جديدة يتوقع محللون أنها سوف تستمر طويلا.

وفي ظل مواصلة الولايات المتحدة لتنفيذ استراتيجيتها بالانسحاب العسكري من المنطقة، وخاصة من العراق وشمال سوريا -إن لم تتغير طبعا مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن- وجدت دول عربية نفسها أمام معادلات جيواستراتيجية جديدة جعلتها تختار حل السلام مع إسرائيل.

وتركز أهداف بعض دول المنطقة وأفعالها في المقام الأول على ردع التهديدات البعيدة والمباشرة من قبل دول في مقدمتها إيران وتركيا والجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل حزب الله اللبناني والجماعات المتطرفة، علاوة على ذلك، فإن إسرائيل تهدف إلى الحفاظ على تحالفاتها القديمة قائمة مع إنشاء تحالفات جديدة مع دول الخليج.

عهد مختلف

إن التطبيع الأخير للعلاقات بين الإمارات والبحرين وإسرائيل هو بلا شك أهم حدث وقع في الشرق الأوسط هذا العام، وإشارة قوية على أن الشرق الأوسط ينتقل إلى عصر مختلف من السياسة الإقليمية.

ومع ذلك، لسبب أو لآخر، لم يكن التوقيع على “اتفاقيات أبراهام” بالحدث الزلزالي كما ينبغي، وأرجع المحلل السياسي، مايكل ستيفنز، وهو زميل مشارك في مركز روسي للدراسات الفكرية في ورقة بحثية نشرتها مؤسسة “عرب داجست” الاستشارية ذلك في جزء منه إلى جائحة كورونا، والانتخابات الرئاسية الأميركية، وكلاهما سيطر على عناوين الأخبار في الأشهر الأخيرة.

والأهم من ذلك هو حقيقة أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس ببساطة مركزيا للأمن الإقليمي والعالمي كما كان في السنوات الماضية.

ويرى ستيفنز، وهو زميل أول في مركز “فورين بوليسي ريسيرش إنستيتيوت” أن اندلاع ما يسمى بـ”الربيع العربي” في عام 2011 ودخول سوريا واليمن وليبيا في حروب أهلية أدى إلى قيام ملايين العرب معظمهم من الشباب بالقتال من أجل العدالة والحقوق في دولهم.

مايكل ستيفنز: التطبيع مع إسرائيل جزء من إعادة توازن القوى في المنطقة
مايكل ستيفنز: التطبيع مع إسرائيل جزء من إعادة توازن القوى في المنطقة

وهنا، اختلط الأمر إلى درجة التعقيد، فبينما حافظ العديد من الشباب العربي على التظاهرات السلمية للضغط على الحكومات الجديدة التي تشكلت بعد الإطاحة ببعض الأنظمة لتحقيق مطالبهم، ظهرت موجة انضمام الشباب إلى التنظيمات المتشددة مثل داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام وغيرها.

وتفاقمت كل هذه المشكلات بسبب الدول في جميع أنحاء المنطقة التي استغلت هشاشة الدولة لمتابعة أجنداتها الخاصة، غالبا على حساب الخصوم الإقليميين بشكل مباشر.

ونشطت تركيا وإيران وقطر وإسرائيل بشكل خاص، في هذا الأمر حيث رعت كل من هذه الدول وكلاء مسلحين وقامت بعمليات عسكرية خارج حدودها، في العراق وسوريا واليمن وليبيا.

كما استخدمت تلك البلدان وسائل إعلامها لمتابعة أجندات متعارضة تماما لما كانت تعمل عليه كل من الإمارات والسعودية حيث وقفتا أمام موجة انتشار الإسلام السياسي والميليشيات المسلحة في اليمن وليبيا.

وقد أدى هذا إلى إثارة الانقسامات في جميع أنحاء المنطقة، ما انجرّ عنه كسر أي قواعد إجماع مفترضة، سواء كانت الوحدة العربية أو الإسلامية.

ويعتقد ستيفنز أن هذا الانهيار في الوحدة كان محوريا على ما يبدو لإفساح المجال لكل من الإمارات والبحرين لزيادة العلاقات بشكل علني مع إسرائيل دون خوف من انتقام الدول العربية الأخرى.

وفي الواقع، وبدلا من مواجهة الازدراء الشديد من الدول العربية “الشقيقة”، لم يكن هناك الكثير من الجهود المبذولة لعكس هذه العملية، لاسيما بعد أن صوتت جامعة الدول العربية ضد اقتراح لإدانة التطبيع، فقبل عشر سنوات، لم يكن من الممكن تصور مثل هذه الفكرة.

وعلى خلفية تحولات القوة العالمية التي بدأت فيها الولايات المتحدة التراجع عن موقعها المهيمن في الشرق الأوسط، يرى المحلل السياسي ستيفنز أنه يجب أن يُنظر إلى تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل على أنه جزء من إعادة توازن القوى في المنطقة.

وتوقفت النماذج السابقة للتنظيم السياسي والعسكري، مثل جامعة الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي عن العمل، وهي حقيقة اتضحت خلال أحلك أيام الحرب السورية وفي أوج أيام “الربيع العربي” في عام 2011، والذي بدأ يحتضر الآن.

وبينما اجتاحت الاحتجاجات والصراعات المنطقة، أجرت العديد من الدول حساباتها الخاصة حول أفضل السبل لحماية نفسها من عدم الاستقرار المحلي والصراع والتوترات الإقليمية الأوسع.

وبدأت الدول في السعي وراء أجندات ضيقة، غالبًا بطريقة متناقضة مع الدول المجاورة التي كانت حليفة ما أدى إلى حدوث التصدعات الدبلوماسية وإثارة منافسة فوضوية خاصة بين دول الخليج.

بزوغ محاور جديدة

جعلت المنافسة بين العديد من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة العربية، وجميعهم لديهم أجندات متنافسة، فهم النظام الإقليمي أمرا مستحيلًا.

ومع ذلك، ومع بدء تقليص النفقات الأميركية ما أدى إلى ترك فراغات في السلطة في جميع أنحاء المنطقة، بدأ نمط جديد يتشكل إلى الحد الذي أصبح من الممكن الآن ظهور ثلاثة تحالفات واسعة في الشرق الأوسط وهي محور المقاومة والقوى المضادة للمحور ومحور الاتفاق الودي.

ويعتقد ستيفنز أن هذا هو الترتيب الجديد للعلاقات والصراعات في الشرق الأوسط، ومن المرجح أن يستمر على هذا النحو لسنوات قادمة.

ويقود محور المقاومة إيران، ويضم عناصر في الدولة العراقية وسوريا وعناصر موالية لإيران في لبنان مثل حزب الله وحركة أمل.

ويمكن تعريف هؤلاء الفاعلين من خلال عدائهم لإسرائيل وانعدام الثقة لديهم العميق بالغرب، حيث يُنظر إلى الحلفاء الغربيين على أنهم يمكّنون القوى الاستعمارية التي يجب مقاومتها، وغالبية الجهات الفاعلة في هذه المجموعة مرتبطة بالإسلام الشيعي.

اتفاقيات أبراهام تشير إلى أن التحالفات الجديدة تتشكل بسرعة في ظل مواصلة واشنطن انسحابها من الشرق الأوسط

أما القوى المضادة للمحور، فتضم كلّا من السعودية والإمارات وإسرائيل وتحتفظ الدول الثلاث بعلاقات قوية مع الغرب ومؤسساته الدفاعية. وهي معادية بشدة لإيران وحلفائها، وتعتبرهما من دواعي عدم الاستقرار والخلاف.

كما أن هذه الدول تحمل كراهية عميقة لحركات الإسلام السياسي النشطة في جميع أنحاء المنطقة، حيث ترى في كل من تركيا وقطر على أنهما مثيران للشغب ولا يعارضان إيران بشكل كاف، ويتطلعان إلى قلب النظام القائم.

وتشكل تركيا وقطر محور الاتفاق الودي مع حلفاء مثل حكومة الوفاق الليبي وحماس في غزة. وتحافظ هذه القوى على علاقات وثيقة مع العواصم الغربية، وهي مستخدم منتظم لمعدات الدفاع الغربية، ولديها موقف متسامح من إسرائيل وإن كان أكثر دعمًا للفلسطينيين.

ومع ذلك، يحتفظ هذا التحالف بعلاقة عملية وإن كانت فاترة مع إيران، وأصبح معارضا شديدا للقوى المعادية للمحور، وعرقل أهدافها في جميع أنحاء المنطقة من خلال الوسائل العسكرية والمالية من خلال دعم الجهات الفاعلة المتعاطفة مع الإسلام السياسي.

ويقول ستيفنز إن ظهور هذه التحالفات الثلاثة هو حلم الواقعيين الجدد، وفي مواجهة تدهور الهيمنة الإقليمية في المنطقة، بدأت المنافسة، مع لاعبين إقليميين أصغر يتعاونون مع لاعبين أكبر وأكثر قوة لخلق موازين قوى.

وقد يجادل الواقعيون الجدد في أن تشكيل هياكل السلطة هذه سيؤدي إلى شكل من أشكال الاستقرار حيث تلغي المحاور الثلاثة بعضها البعض ولكن فرصة دخول أي من هذه المحاور الثلاثة في حرب مع بعضها البعض غير مرجحة على الإطلاق، لاسيما وأن كل محور يمتلك نقاط قوة يفتقر إليها المحوران الآخران.

ونجح محور المقاومة في اختراق السياسات المحلية في الدول الضعيفة بطريقة فعالة بحيث لا يمكن إزالة نفوذه. أما القوى المعادية للمحور فتتمتع بإمكانية الوصول إلى أعلى التقنيات العسكرية والموارد المالية الوفيرة، وكلها مدعومة بتقنيات ردع نووية.

في هذه الأثناء، يتمتع تحالف الوفاق الودي بالثقل والقوة الهائلة لقوة عسكرية رئيسية تابعة لحلف شمال الأطلسي، مدعومة بالثروة الهائلة والموارد المالية لقطر.

وسوف تتنافس المحاور الثلاثة بشكل شرس في الدول الأضعف التي لا يستطيع قادتها مقاومة إغراء السلاح والتمويل. ومن المؤكد أنه سيؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار ويضمن استمرار التوتر في المنطقة لسنوات عديدة قادمة، ولكن على الأرجح يضمن عدم حدوث المزيد من التصعيد.

6