نفوذ إيران في تراجع بعد تآكل قدرتها على الردع

سنة 2024 كانت حاسمة بالنسبة إلى إيران، حيث كشفت عن محدودية إستراتيجيتها للردع، والتي قامت في السابق على تخويف الإقليم، لكن اختبارها في التصعيد مع إسرائيل قاد إلى الكشف عن صورة مغايرة، وباتت طهران في مرمى التهديدات الأميركية والإسرائيلية، والجميع يعرف أنها باتت بلا أوراق تأثير فعلية.
واشنطن- خلال العام الماضي تآكلت قدرة إيران على ردع إسرائيل التي أطلقت العنان لقدراتها العسكرية والسرية ضد طهران، مما وضع نظام الحكم الإيراني أمام خيارين إما المخاطرة بكل شيء مقابل الحصول على الأسلحة النووية أو وضع نفسه تحت رحمة تل أبيب وواشنطن.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية قال جون ألين جاي، المحلل السياسي والمدير التنفيذي لجمعية جون كوينسي آدمز لدارسي السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، إن قوة الردع الإيرانية كانت تبدو كافية حتى قبل أبريل من العام 2024 حيث كانت تمتلك منصة رباعية الأضلاع للرد على التهديدات الإسرائيلية والأميركية.
أول هذه الأضلاع هو ترسانة الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيرة التابعة للقوة الجوية للحرس الثوري الإيراني والتي كانت جاهزة لقصف أيّ مكان في المنطقة. وقد تم استخدام هذه الترسانة للرد على اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني في عام 2020 وضرب عناصر تنظيم داعش في سوريا والقيام بهجمات أقل شهرة ضد الانفصاليين الأكراد وهو ما قيل وقتها إنها مقار آمنة للمخابرات الإسرائيلية في إقليم كردستان العراق.

أمّا الضلع الثاني فهو شبكة الجماعات المسلحة التابعة لها في الشرق الأوسط ومنها جماعة الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان ومجموعات من المتطوعين الشيعة من أفغانستان وباكستان، والجماعات الشيعية المسلحة في العراق وسوريا.
أما الضلع الثالث فيتمثل في العمليات السرية، حيث تستطيع إيران من خلال أجهزة مخابراتها وأحيانا بالتعاون مع حزب الله تفجير مبان واغتيال شخصيات معادية في مختلف أنحاء العالم. وعلى سبيل المثال رد حزب الله على اغتيال إسرائيل لزعيمه الراحل عباس موسوي عام 1992 بتفجير سفارتها في بيونس آيرس.
ويتمثل الضلع الرابع في قدرتها على وقف حركة إمدادات النفط الخام من منطقة الخليج العربي إلى أسواق العالم عبر مضيق هرمز الذي يمر منه نحو خمس إمدادات النفط العالمية وخمس إمدادات الغاز الطبيعي المسال. لذلك تهدد إيران باستمرار بإغلاق المضيق ردا على أيّ هجوم يستهدف أراضيها. وتمتلك إيران قوة بحرية وصاروخية قادرة على تحقيق هذا الهدف بالفعل.
وبدا أن كل هذا يوفر لإيران ردعا معقولا. فالولايات المتحدة، المهتمة بالصين وأوكرانيا أكثر من أيّ حرب أخرى في الشرق الأوسط، لم تضرب إيران مباشرة (باستثناء اغتيال قاسم سليماني، وحتى ذلك حدث في العراق وليس إيران). كما استخدمت واشنطن أحيانا قوة محدودة ضد وكلاء إيران في العراق وسوريا.
ولم تكن الولايات المتحدة متعطشة لخوض معركة كبيرة ضد وكلاء إيران، وبالتأكيد ليس ضد إيران نفسها.
في الوقت نفسه كان الردع الإيراني في مواجهة إسرائيل، جزئيا. فقد حولت إسرائيل سوريا إلى ساحة معركة، وضربت خطوط الإمداد الإيرانية لحزب الله مئات المرات في ما يسمى “حرب ما بين الحروب.” كما أحبطت أجهزة الأمن الإسرائيلية العمليات السرية الإيرانية مرارا وتكرارا.
ونفذت المخابرات الإسرائيلية العديد من العمليات الناجحة داخل إيران، مما ساهم في عرقلة البرنامج النووي الإيراني، لكنها لم تنجح في إيقافه تماما. كما لم تستطع ضرب إيران علنا، ولا قصف البرنامج النووي بسبب مزيج من قوة تحصين الأهداف النووية الإيرانية، والمخاوف من رد فعل طهران، والخوف من إغضاب الولايات المتحدة.
لكن عام 2024 شهد تدمير جزء كبير من منظومة الردع الإيرانية، حيث حطمت الضربات الإسرائيلية العديد من دعائم الردع الإيراني. وبنفس القدر من الأهمية، ازداد استعداد إسرائيل للمخاطرة بشكل كبير، فقصفت منشأة قنصلية إيرانية في دمشق، واغتالت زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران، وشنت سلسلة من الهجمات على قيادات حزب الله، بما في ذلك اغتيال زعيمه حسن نصرالله ثم خليفته المحتمل، واغتيال ثلاثة جنرالات من الحرس الثوري الإيراني وهو ما جعل إيران تبدو الآن في وضع هش للغاية.

جون ألين جاي: قوة الردع الإيرانية كانت تبدو كافية حتى قبل أبريل من العام
ويقول جاي إنه في الوقت نفسه لا تبدو قدرة الحرس الثوري الإيراني في الردع كما كانت في السابق. فالهجوم على إسرائيل بالصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيرة تحت اسم “الوعد الحق” لم يؤد إلا إلى أضرار بسيطة حيث نجحت إسرائيل وحلفاؤها في اعتراض أغلب هذه الصواريخ والطائرات المسيرة، مما استدعى قيام طهران بهجوم ثان باسم “الوعد الحق 2” باستخدام الصواريخ الباليستية، والتي لم تسفر إلا عن مقتل فلسطيني في الضفة الغربية الفلسطينية عن طريق الخطأ. وفي الوقت نفسه لم تنجح عملية الوعد الحق الأولى والثانية في منع إسرائيل من استهداف حزب الله اللبناني وأهداف إيرانية في سوريا على مدار العام الماضي.
وفي أبريل الماضي أطلقت إيران نحو 100 صاروخ باليستي متوسط المدى وأكثر من 30 صاروخ كروز وما لا يقل عن 150 مسيّرة هجومية باتجاه إسرائيل، لكن أغلب الأسلحة سقطت بعيدا عن المجال الجوي الإسرائيلي بمساعدة الحلفاء وبالأساس الولايات المتحدة.
وأعطى الهجوم الفاشل صورة أكثر دقة عن محدودية فاعلية الأسلحة الإيرانية وفي الوقت نفسه كشف عن أن إسرائيل هي صاحبة المبادرة، خاصة أنها ضربت بقوة مختلف مواقع النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان واليمن، فضلا عن دلالات اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس في قلب طهران عقب ساعات من تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزكشيان، وما أظهره من تفوق إسرائيلي وضعف استخباري وعسكري من جانب إيران.
وكانت إيران تستعمل أسلحتها “المتطورة” كأدوات للتخويف وفرض النفوذ على المنطقة مباشرة أو من خلال تزويد الميليشيات الحليفة لها بهذه الأسلحة، وهو ما ظهر بصفة خاصة في استهداف الحوثيين لمنشآت نفطية سعودية عام 2019، وتحويل المسيّرات والصواريخ الممنوحة للحوثيين إلى ورقة ضغط على الرياض، وتهديد أمن الملاحة في البحر الأحمر.
وصار واضحا الآن أن الأمر انقلب رأسا على عقب، وبان بالكاشف أن الأسلحة – التي كانت إيران تقول إنها تهدف إلى ردع إسرائيل على وجه الخصوص – محدودة، وأن الحديث عن التسليح والتطوير وعرض أنواع جديدة من المسيرات والصواريخ كان دعاية سياسية.
كما تآكلت قوة ردع وكلاء إيران في المنطقة. ففي حين نجح الحوثيون في مواجهة الولايات المتحدة وجها لوجه لأشهر، كانت مساهمتهم في الحرب ضد إسرائيل محدودة، حتى أن حملتهم ضد حركة الملاحة البحرية المتجهة إلى إسرائيل لم تؤد إلا إلى زيادة طفيفة في الأسعار داخل إسرائيل.
الولايات المتحدة لم تكن متعطشة لخوض معركة كبيرة ضد وكلاء إيران، وبالتأكيد ليس ضد إيران نفسها.
في الوقت نفسه فقدت إيران قوة الردع التي ظل حزب الله اللبناني يمثلها طوال السنوات الماضية بعد أن خسر الجزء الأكبر من قوته في حربه الأخيرة مع إسرائيل. وفي حين خرج حسن نصرالله من حربه ضد إسرائيل في صيف 2006 بطلا منتصرا، فقد خرج من الحرب الأخيرة مقتولا بقصف إسرائيل لمقره في العاصمة اللبنانية بيروت. وتقول إسرائيل إنها دمرت 30 في المئة من قدرات حزب الله الصاروخية. كما أن انهيار نظام حكم الرئيس السوري بشار الأسد، جعل محاولات إيران إمداد حزب الله بالأسلحة بالغة الصعوبة.
وبالنتيجة، فإن أدوات إيران القديمة للتعامل مع التهديدات الأميركية والإسرائيلية لم تعد مجدية ولا قادرة على ردع واشنطن وإسرائيل عن مهاجمتها، كما كان الحال قبل أكثر من عام. لذلك لم يعد أمام نظام الحكم الإيراني سوى المخاطرة بتجاهل تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإسرائيل والمضي قدما في برنامجه النووي على أمل الحصول على القنبلة النووية قبل مهاجمة أراضيه أو القبول بالحل الدبلوماسي الذي ينطوي على التنازل عن الحلم النووي ولو إلى حين.