نفطة التونسية أخت الكوفة في المعمار والطابوق

مهرجان لإنقاذ براطيل الأنهج الضيقة من الزوال وإعادة مكانتها ورمزيتها في وجدان أهالي المدينة وزوارها.
الجمعة 2019/02/08
رحلة في رحاب الصوفية

لماذا لا تحافظ المدن على خصوصيتها المعمارية التي بنيت عليها في الأول فتترك المباني العصرية المتشابهة تغير عليها؟ سؤال يتبادر إلى ذهن كل من يكتشف مدينة عتيقة تسحر بجمال معمارها، ففي تونس تمتاز المدن العتيقة بخصوصيات معمارية يمتزج فيها النمط الأندلسي بالإسلامي، لكنها اليوم غابت بين الحيطان البيضاء الشاهقة، إذ تبدو مدينة نفطة العتيقة بخصوصية براطيلها مهددة بالزوال لأن لا أحد يهتم بهذه المعالم التاريخية التي كانت مقصد المصورين ومخرجي الأفلام والمسلسلات.

درصاف اللموشي

نفطة (تونس) - اختارت اللون الأصفر لون رمال الصحراء، شكلها يوحي إلى قوس النصر بباريس لكنها ليست كذلك؛ هي البراطيل المنتصبة عند مداخل الأزقة في منطقة الجريد بالجنوب الغربي التونسي تحديدا في مدينة نفطة الملقّبة بالكوفة الصغرى، شاهدة على حقبة من الزمن لم تصبغها العولمة بألوانها الجديدة المختلفة.

وإن تأخر الاحتفال بها، فإنه لأوّل مرّة يقام مهرجان “إحياء براطيل نفطة” بالمدينة العتيقة أيام 6 و7 و8 من الشهر الجاري.

وضمت التظاهرة التي تنتهي فعالياتها الجمعة العديد من العروض الفنية لفنانين شعبيين وندوات فكرية تطرقت إلى تاريخ نفطة وعاداتها وورشات ومعارض للوحات فنية تؤمّها جمعية “ألوان بلا حدود”.

ويقول بوبكر منفّد مدير المهرجان، إن المهرجان يهتم بالاحتفالات التي كانت تعمّ البراطيل مثل الاحتفال بطقوس عاشوراء مع ارتداء الملابس التقليدية التي كان يرتديها سكان البراطيل قديما، وتنشيط المكان بواسطة فرق فلكلورية.

وجهاء المدينة دأبوا على تشييد البراطيل كعلامة على الثراء والمكانة الاجتماعية

ويضيف منفّد أن الهدف من المهرجان تهذيب وإصلاح بعض البراطيل التي أصبحت مهددة بالاندثار بإمكانيات بسيطة، لافتا النظر إلى أهميتها وإعادة مكانتها ورمزيتها في وجدان أهالي المدينة وزوارها وإضفاء الحيوية على المدينة العتيقة وسوقها ودكاكينها، على ألا يتم اقتصار السياحة في نفطة على منطقة “عنق الجمل”؛ المنطقة الصحراوية التي اكتسبت شهرتها السياحية بعد تصوير فيلم “حرب النجوم”.

ونبّه إلى أن الوضع الراهن للبراطيل خطير ووجب إصلاحها، فالمارّة أصبحوا يشتكون من إمكانية سقوطها في أي لحظة وبالتالي إمكانية حدوث إصابات في صفوف المارّة.

وعدّد منفّد تحديات المهرجان وأهمّها إنجاح دورته الحالية وضمان حضور جماهيري محترم، وحول دعم وزارة الثقافة للمهرجان شرح أنه دعم مالي هام لكنّه غير كاف وأن العديد من الأطراف قدمت مساعدات مادية ومعنوية ضمن فريق المهرجان.

وتهدف هيئة المهرجان من خلال هذه التظاهرة الى البحث عن دعم مالي يمكنها من ترميم أكبر عدد ممكن من البراطيل وزيادة برمجة دورات أخرى للمهرجان بعروض جديدة ومدّة أطول تمتدّ لأسبوع بدلا من ثلاثة أيام في دورته الأولى.

فرادة المعمار

المهرجان مناسبة لتسليط الضوء على فرادة الفن المعماري في مدينة نفطة خلال البراطيل التي شهدت فصولا من التظاهرات سواء في المدينة العتيقة “علقمة ” أو في الأحياء القديمة الأخرى، كحي الشرفة حيث تم تنظيم كرنفال تنشيطي يجوب المدينة العتيقة وعروض صوفية للفرق الطرقية بنفطة وتوزر.

ويبيّن المهندس المعماري عبدالستار مجوري ابن الجهة، أن البراطيل بنيت على الأنهج القديمة الضيقة تتضمّن قوسين واحد عند بداية النهج وآخر عند نهايته يبنيان بالآجر المحلي الأصفر أو ما يسمّى بالقالب.

ويستعمل خشب النخيل المُجفّف لتسقيف ما بين القوسين ثم تغطى بالطين والرمال الحمراء وليست الصفراء كخليط يوضع فوق الخشب، وتكون المسافة بين الخشبة والأخرى 50 سنتيمترا، وفي صورة بناء طابق ثان فوق البراطيل فإن المسافة بين الخشبة والأخرى تقل إلى 30 سنتيمترا مع توفير ميزاب فوق السطح بمثابة قنوات تصريف لمياه الأمطار يقع اعتماده فوق القوس عند البداية وعند النهاية وأحيانا أخرى في شكل سيالة على اليمين واليسار.

وأوضح مجوري أن هذا الموروث المعماري الفريد من نوعه في أرض الجريد كان متواجدا منذ عهد الرومان في إيطاليا التي تحافظ عليه حتى الآن، حيث بنيت بعض الأقواس لكن ليست بنفس الشكل الذي شيّدت به براطيل نفطة.

الفتيات باللباس التقليدي
الفتيات باللباس التقليدي

أما في العراق فنجد أن نفس مواد البناء توارثت بين البلدين وهو ما جعل نفطة تُلقّب بالكوفة الصغرى، لتشابه النمط المعماري بينها وبين الكوفة العراقية.

وأشار إلى أن المستطيلات الصغيرة الصفراء استعملت لتغليف الأسوار والمباني من الخارج وحتى المراقد في العراق وأطلق عليها اسم الطابوق وتوشّحت بها أيضا البراطيل في نفطة.

حسب ما قال خالد العقبي، رئيس جمعية حلقة نفطة للثقافة والإبداع لـ”العرب”، يعود تاريخ بداية هذه البراطيل إلى حوالي القرن الـ17 مع بداية تشكّل المدينة العتيقة، وتسمية برطال تعود إلى كلمة “portail” الفرنسية وتعني الباب الكبير.

وذكر العقبي أن وجهاء المدينة دأبوا على تشييدها كعلامة على الثراء والقدرة المادية والمكانة الاجتماعية. وهو ما يُفسّر أن معظم البراطيل في نفطة تُسمّى باسم لقب عائلة الشخص الذي بناها ويقع مسكنه بداخلها.

وقال خالد العقبي إنه إضافة إلى الوجاهة، فإن السبب الذي من أجله أقيمت البراطيل هو توفير الظل لعابري السبيل، بما أن نفطة تشهد صيفا حارا، والبراطيل تحمي من أشعة الشمس الحارقة وتعمل كمُكيّف طبيعي يمنح هواء منعشا.

ومن المهام الاجتماعية الأخرى التي تقوم بها البراطيل هي جعلها فضاء للالتقاء والتواصل الاجتماعي والتسامر بين رجال الحي أو العائلة الكبيرة.

ويقول العقبي إن الرجال من سكان الحي يلتقون للتسلية من خلال الألعاب الشعبية في أوقات الفراغ عادة حيث يجلسون للعب “الخربقة”، وهي لعبة ذهنية معروفة في بلدان المغرب العربي، تتم في الجنوب التونسي بالحجارة ونواة النخيل ورسم رقعة على الأرض بخانات تشبه خانات رقعة الشطرنج.

ويتناوب اللاعبان على ملء جميع مربعات الرقعة عدا المربع الأوسط، وتنتهي المباراة حين يتمكن واحد من اللاعبين من محاصرة قطع المنافس وجعله غير قادر على التحرك بين المربعات.

وللحكواتي منزلته الخاصة في مجلس الرجال تحت البرطال من حين إلى آخر يتولّى لساعات مهمّة القاصّ للروايات بأسلوب مشوق لا يقدر عليه إلا القليلون، واندثر الحكواتي اليوم من مدينة نفطة بعد تحول اهتمام الشباب إلى المقاهي وعالم الإنترنت.

وتمثل البراطيل أيضا فضاء للأفراح حيث يجتمع الرجال بينما تكون النساء داخل المنزل. ويقول سعيد اللموشي الذي عايش مجد البراطيل إنه يحنّ إلى تلك اللقاءات التي كانت تضجّ حياة؛ حيث كان الرجال يجلسون على الدكّات تحت البرطال، وهناك من يفترش الأرض لمن لا يجد مكانا على الدكّة من أقارب وجيران وأصدقاء وحتى القادمين من الحارات المجاورة.

وبحسب اللموشي، فإن أغلب الأوقات التي تطيب فيها الإقامة في البراطيل هي صباحا وليلا بعد صلاة العشاء مباشرة للتسامر والحديث وتبادل الروايات والنكت، وخاصة النقاش حول صابة التمور والحديث عن تلقيح النخيل وغيره من الأعمال التي تتطلبها الواحة، وهي مورد رزقهم الوحيد في الماضي.

 هل تعود المدينة وجهة المخرجين والمصورين
 هل تعود المدينة وجهة المخرجين والمصورين

ولا تحلو هذه المجالس، وفق سعيد، دون شرب الشاي والقهوة اللذين يتكفل أحد الجالسين في كل مرة بجلبهما من منزله ليوزعهما على الحاضرين ليكونا خير جليس لهم في مسامراتهم.

وللأطفال نصيب من لقاءات البراطيل، إذ استرجع اللموشي البعض من هذه الذكريات حيث كان الأطفال يلهون ويلعبون حول الرجال ويتلذّذون النسائم الباردة صيفا، لكن النساء كنّ لا يجلسن في البرطال وتتم لقاءاتهن داخل المنازل.

واستغرب اللموشي من فضّ المجالس حول البراطيل خلال السنوات الأخيرة وخلوّها من المسامرات باستثناء بعض المارّة، واختيار البقاء في المنزل أمام التلفاز مع العائلة الضيقة.

وسردت فتحية ذكرياتها أيام زهو البرطال، رغم أن النسوة لا يستمتعن بالجلسة فيه ولكنهن كن يحضرن للرجال الشاي والقهوة ويجلسن في ركن قريب من الباب الخارجي عند السقيفة ينسجن الأفرشة والأغطية.

وأفادت فتحية أنه بين الحين والآخر تتتالى إلى مسامعهن أصوات الرجال القادمة من البرطال ويضحكن عند سماع بعض النكت، محاولات قدر المسطاع أن يتحدّثن بصوت خافت حتى لا يفسدن على أنفسهن بعض المزحات القادمة من البرطال.

ولم تنكر فتحية أنه أحيانا يقمن باستراق السمع عنوة إلى بعض الأحاديث الهامة التي يقولها الرجال وليس كلها ويتفاعلن معها ويتحول النقاش حينها من مجالس الرجال إلى مجلسهن، وخاصة إذا تعلق الأمر بأخبار العائلات من معارفهن أو أقاربهن.

ولم تنس فتحية كيف كن يخرجن عند تجمّع الرجال في البرطال، وهذا نادر الحدوث للضرورة القصوى في حالة المرض أو لزيارة لا تحتمل التأجيل للأقارب، إذ كانت ترتدي المرأة المضطرة لحافا أسود يغطي جسمها وشعرها وتمشي بخطوات متثاقلة مطأطئة الرأس خلف الزوج مباشرة. وعند خروج المرأة يُنزل الرجال أعينهم إلى الأرض ويصمتون عن الحديث إلى حين مرورها.

التاريخ الضائع

تغيّر حال البراطيل التي أصبحت مهددة بالاندثار، وماتت الحياة فيها واستوطنها السكون.

ونقص عدد المهتمين بتصوير الأفلام داخل أنهجها أو هواة التصوير الفوتوغرافي نظرا لتهاويها وغياب مسحتها الجمالية التي كانت تشد الزائرين، فتكدّست حولها الأوساخ وبات البعض منها مصبّا للفضلات.

وأصبحت البراطيل آيلة للسقوط في ظل غياب الصيانة الدورية والنظافة. ولفت خالد العقبي إلى أن المقاهي عوّضت جلسات التسامر والنقاشات داخل البراطيل. وتحوّلت إلى فضاءات جديدة للتواصل ولعب الورق.

مقهانا حين لم تكن هناك مقاه
مقهانا حين لم تكن هناك مقاه

وتابع العقبي أن الطابع المعماري تغيّر بشكل جذري وشبه سريع بتعويض الآجر المحلي بالآجر الأحمر وبالأسمنت والحديد، لتنتشر المباني العصرية منذ الفيضانات التي شهدتها مدينة نفطة سنة 1990 والتي أدّت إلى تضرّر العديد من البراطيل.

وشدّد العقبي على ضرورة ردّ الاعتبار لمثل هذه المعالم التاريخية والحضارية التي توثق لجانب من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية الصاخبة، مُحذّرا من إمكانية اندثارها نهائيا.

ودعا إلى إدراج البراطيل من قبل المعهد الوطني للتراث كمعالم تراثية مع تدخّل جمعية صيانة مدينة نفطة من أجل حمايتها من الاندثار.

وأكد أن دور وزارة السياحة يتمثل في اعتماد وكالات الأسفار للبراطيل كمسلك سياحي يتوافد عليه السياح الأجانب والمحليون بغاية إعادة الحركية إليها.

وسبق أن ناشد المجتمع المدني بمدينة نفطة والعديد من الجمعيات كجمعية حلقة نفطة للثقافة والإبداع، وزارة الثقافة في مراسلات التدخّل بصفة عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البراطيل.

وانطلقت قبل الثورة تحديدا في 2008 أشغال صيانة ما تداعى للسقوط من براطيل والحفاظ على الخصائص المعمارية للمنطقة، إلا أن هذه العملية شملت عددا محدودا منها فيما بقيت البقية بلا إصلاحات.

ويصعب حصر عدد البراطيل في مدينة نفطة سواء الجيدة حالتها أو التي تترنّح بسبب كثرة عددها وتواجدها في أغلب الأحياء على غرار علقمة والشرفة والمواعدة، مما يتطلب دراسة دقيقة من سلطات الإشراف لحصر عددها.

وفي السنوات الأخيرة ومع التطور العمراني، هجر عدد من السكان منازلهم الكائنة داخل البراطيل، في حين غادر آخرون المدينة واستقروا بالعاصمة التونسية أو في بلدان أوروبية خاصة فرنسا، بعد أن قلت الموارد الاقتصادية وأصبحت الواحة لا توفر المداخيل الكافية للعائلة، وبعضهم غادر لمواصلة الدراسة، كما أن بعض الورثة أهملوا براطيلهم وتغاضوا عن ترميمها.

ويأمل البعض من الشباب في أن تستعيد مدينتهم ألقها ويتم استغلال المنشآت التاريخية، خاصة وأنها كانت وجهة للعديد من المخرجين في صناعة الأفلام والمسلسلات.

20