نظرة اللبنانيين لـ"البوسطة" تتغير: من سبب للحرب إلى رمز للخير والمحبة

بيروت - لطالما شكلت الحافلة، أو "البوسطة" كما تسمى في لبنان، رمزا لشرارة الحرب الأهلية في البلاد، والتي حلت ذكراها السنوية الـ48 الخميس، لكنها بمرور السنوات تحولت إلى مصدر إلهام لمشاريع خيرية وبيئية.
وفي الثالث عشر من أبريل 1975، وكرد فعل على مقتل عنصرين من حزب الكتائب (مسيحي)، قتل مسلحوه 27 فلسطينيا بمنطقة عين رمانة شرقي العاصمة بيروت بعد إطلاق نار استهدف حافلتهم، لتدخل البلاد إثر ذلك في حرب استمرت 15 عاما.
وتمثلت القوى المتصارعة في مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية، إضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، كما ترافق ذلك مع دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، ثم الاجتياح الإسرائيلي على مرحلتين خلال عامي 1978 و1982.
ورغم أن الأسباب الفعلية للحرب الداخلية سبقت مقتل الفلسطينيين، حيث أنها كانت متشعبة ما بين اقتصادية وسياسية وطائفية وعوامل خارجية، إلا أن الحافلة (البوسطة) بقيت عالقة في الأذهان على أنها السبب المباشر لنشوب الاقتتال.
لكن رمزية "البوسطة" تحولت بعد كل هذه السنوات إلى منطلق لمشاريع عدة تبعث الأمل والسلام إلى الأجيال الصاعدة، وتحاول كسر الصورة النمطية لهذه الحافلة، والتي ترسخت في العقول طيلة السنوات الماضية.
وقدر عدد ضحايا الحرب بـ150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعوق و17 ألف مفقود، فضلا عن هجرة أكثر من مليون شخص وخسائر مادية فاقت 100 مليار دولار، وفق إحصاءات غير رسمية.
وفي منطقة عين رمانة حيث انطلقت شرارة الحرب قبل أكثر من 4 عقود، حلت "بوسطة" مشابهة للحافلات القديمة وقت الحرب لكنها ليست مخصصة للنقل، إنما تستخدم كمطعم مجاني للفقراء والمحتاجين، أنشأته جمعية “سعادة السماء” (غير حكومية).
وقال مؤسس الجمعية الكاهن مجدي علاوي إن "الهدف من المشروع الإنساني تغيير النظرة للبوسطة وتحويلها إلى رمز للخير والمحبة”، مضيفاً أن “البوسطة التي نريدها هي مكان للتلاقي والحوار بين أبناء الوطن”.
وأردف “من هذا المكان اندلعت الحرب في 13 أبريل 1975، ومن نفس المكان أردنا أيضا أن نقلب الصورة من خلال جعل البوسطة مكانا يأكل فيه الفقراء بكرامتهم ويجتمعون معا”.
وأوضح أن “المطعم كان يقدم وجبات مجانية من الهمبرغر والبطاطا يوميا للأطفال والمسنين خاصة، لكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية بات المطعم يفتح أبوابه بضعة أيام في الشهر”. ويعتمد تأمين المواد الغذائية في المطعم على التبرعات العينية، فيما يقوم بإعداد الطعام وتحضيره عدد من المتطوعين الشباب والشابات.
وسجل في لبنان أعلى معدل سنوي لتضخم أسعار الغذاء في العالم هذا العام عند 139 في المئة، وفقا لأحدث أرقام البنك الدولي. ومع وجود مجموعة مختلفة من أسعار الصرف في البلاد، لا يزال الكثير من اللبنانيين، وخاصة موظفي القطاع العام، يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلية.
ويعاني لبنان منذ عام 2019 أزمة اقتصادية حادة هي الأسوأ في تاريخه، أدت إلى انهيار مالي وتدهور معيشي غير مسبوق. ويواجه حالة من تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع أسعار السلع وانهيار الليرة، بالإضافة إلى وجود حالة من الفراغ السياسي في البلاد، ما أدى إلى تصاعد الغضب الشعبي ونشوب الاحتجاجات والمظاهرات والصدامات التي لا تتوقف.
◙ رغم أن أسباب الحرب الأهلية كانت متشعبة بقيت الحافلة (البوسطة) عالقة في الأذهان على أنها سببها المباشر
وحذر صندوق النقد الدولي من أن لبنان في وضع خطير للغاية بعد مرور عام على التزامه بإصلاحات فشل في تطبيقها، وحث الحكومة اللبنانية على التوقف عن الاقتراض من البنك المركزي.
وقال إرنستو ريغو رئيس بعثة الصندوق خلال مؤتمر صحفي في بيروت “لبنان في وضع خطير للغاية”. وأضاف أنه ينبغي للسلطات أن تسرّع تنفيذ اشتراطات الصندوق للحصول على حزمة إنقاذ حجمها ثلاثة مليارات دولار. وأردف “كنا نتوقع المزيد فيما يتعلق بتطبيق وإقرار التشريعات” المتعلقة بالإصلاحات المطلوبة، مشيرا إلى أن التقدم “بطيء جدا” في هذا الصدد.
وأصيب الاقتصاد اللبناني بالشلل جراء انهيار العملة التي فقدت نحو 98 في المئة من قيمتها أمام الدولار منذ 2019، مما دفع التضخم إلى خانة المئات وتسبب في شيوع الفقر وتزايد الهجرة إلى الخارج. وجعل الشاب اللبناني بيار بعقليني من “البوسطة” مشروعا صديقا للبيئة في بيروت، يهدف إلى إعادة فرز النفايات ونشر الوعي وثقافة الحفاظ على البيئة بين الأجيال الصاعدة.
والمشروع هو عبارة عن حافلة من الطراز القديم شبيهة بحافلات فترة الحرب، ومجهزة بحاويات لفرز المواد القابلة لإعادة التدوير، بدلا من مقاعد الركاب.
وقال بعقليني، وهو مؤسس إحدى الشركات المحلية المتخصصة في إعادة تدوير النفيات، إن “البوسطة من الطراز القديم لها رمزية كبيرة جدا لدى اللبنانيين”. وأضاف “كلنا نعلم الذكريات الأليمة في تلك الفترة (فترة الحرب الأهلية)”.