نظام تحديد الهوية الإلكتروني: فخ المراقبة الشاملة

لا ريب في أن وسائل التعريف الآلية، الشهيرة بتحديد الهوية على موجات الراديو، ستقلب مجريات حياتنا اليومية رأسا على عقب لأنها ستوفر جمع المعلومات وإتاحتها في بيانات رقمية وسحب تخزينها على الحاسوب، وهي في الواقع عبارة عن موجات كهرومغناطيسية لنقل البيانات من جهاز أصغر يتم لصقه على الشيء المراد التعرّف عليه، وذلك بغاية تأمين أكبر قدر من المعلومات منه وحوله.
وأضحت هذه التقنية نظاما تستعمل فيه موجات كهرومغناطيسية يستجيب لها تلقائيا الأشخاص والمعدات والتجهيزات والبطائق والمواد عن طريق زرع رقاقات أو بث شفرات تصدر موجات كهرومغناطيسية، بحيث نجد رقاقات ذكية أو “باركود” صغيرة جدا، وهي اليوم ليست أكبر من حجم شعرة صغيرة يمكن إدراجها في الأشياء والإنسان والحيوان، تخول لها تبادل مئات الملايين من المعلومات مع محيطها.
التعريف المرموز
إن استعمال رقاقات أو شرائح تعمل بفضل تقنية ترددات الراديو الإشعاعية سيعم العالم في أمد قصير ويشمل اليوم بطائق الهوية وجوازات السفر ووسائل النقل وبطاقات الائتمان والأداء البنكي والسلع، وفي المكتبات ولوحات السيارات وفي مراقبة البضائع وبيعها، وفي الهواتف المحمولة واللوحات الإلكترونية وفي التسوق، وذلك بانتظار وضع بطاقات ذكية متناهية الصغر ملصقة على ملابسنا والمواد الغذائية والمعلبات والكتب والألبسة.
ومن أهم سمات هذه التقنية تمكين الأشياء من التواصل في ما بينها، بينما لا يتورع معارضو استعمال تقنية ترددات الراديو التعريفية عن التحذير من مغبة ذلك، فضلا عن التلويح باستفحال تحديد الهوية عبر الموجات بوصفها رقابة تقنية في حياة الإنسان، إن لم يكن ذلك مقدمة للحد من حرية الأفراد وتعبيد الطريق أمام المراقبة الشاملة بمختلف تجلياتها ومخاطرها، أما جمهور المناصرين فإنه يعتبر أن المشكلة لا تكمن في التقنية بقدر ما تكمن في ما يفعله الإنسان بها سلبا أو إيجابا. لذلك، فإن حجج المدافعين والمعارضين لا تخلو من إشكالية، حيث يرجع اكتشاف تقنية التعريف بالموجات إلى الأبحاث العسكرية، ونجد أولى استعمالاتها انحصرت في التعرف على الطيران الصديق من طيران العدو. ثم ما لبثت أن انتقلت إلى استعمالات مدنية في نهاية تسعينات القرن الماضي من خلال تأدية واجبات المرور في الطرق السيارة، والأنفاق، والجسور، والمطارات، والموانئ، ثم تم استعمالها في أنظمة تحديد هوية الماشية، والآن يتم استعمالها في الوثائق الرسمية لإثبات الهوية.
من السهل إشراك تقنية التعريف الإلكتروني مع لاقطات سلكية أو لاسلكية وتسهيل الاتصال بها، ما يمكن من التقاط معلومات أخرى
الواقع أن تحديد الهوية تجلى منذ القدم في إسدال صفة على شيء ما أو منحه تعريفا معيّنا، فضلا عن وضع علامة عليه تميّزه عن غيره. ومن ثمة كان الترقيم في البداية، أبجديا أو حسابيا، هو الوسيلة التي بفضلها يمكن وضع اسم على مسمى، بحيث تم وضع بطاقات تعريف وجذاذات تعريفية من طرف الدولة الحديثة استجابة إلى متطلبات التدبير الإداري التي ظهرت مع علوم جديدة مثل علم الإحصاء وتم تطويرها اليوم.
وقد بدأ العمل به منذ سبعينات القرن الماضي حيث ظهرت أولى أنظمة التعرف على مرجعية المنتوج، ويتم بموجبه تتبع المنتجات من نقطة المنشأ إلى موقع البيع بالتجزئة، فضلا عن تدبير المخزون من البضائع، والتي أصبحت لها هوية رقمية تخضع لمعايير تفهمها أنظمة المعلومات والبرمجة.
تقنيات الالتقاط
بكل تأكيد، يأتي استعمال تقنية ترددات الراديو التعريفية كتتمة لما بدأ في السابق في تقنيات الالتقاط مثل الشفرات المسطَّرة أو “الباركود” الموضوعة على السلع، والبطائق الممغنطة، والتعرف عبر الصوت، أو القياس الإحيائي (التعرف بواسطة استعمال خصائص جسدية كالبصمات، أو قسمات الوجه أو شبكة العين)، بحيث تخضع للوسائط المعلوماتية التي تمكن أنظمتها من التقاط بعض سمات وخصائص الأشياء والأشخاص من أجل التعرف عليها.
وإذا كانت الشفرات المسطَّرة تتيح هذه المعالجة بطريقة آلية، فإنها تشترط وضع لوحة بصرية تقرأ الشفرة، وهو ما يقتضي مرونة دقيقة من المحرك الذي يجري هذه العملية. لذا يتوقع من استعمال تقنية ترددات الراديو التعريفية بأن تتجاوز حدود الشفرات المسطرة وأخطاءها.
وتنقسم تقنية نظام التمييز أو التعريف الإلكتروني بالموجات إلى نظامين، يكمن الأول في بطاقة ذات قياس ترددي تحمل رقاقة إلكترونية، أو شريحة مجهزة بهوائية، أو جهازا مخصصا للاستجابة لموجات كهرومغناطيسية، بحيث يوضع الجميع على مسند من البلاستيك، شكله وعرضه متفاوتان بحسب التطبيقات المراد منه، كما يمكن أن يكون مجرد بطاقة ملصقة على كرتون أو مدمجة في اللباس أو كبسولة يتم حقنها في جسم حيوان.
القراءة التلقائية عبر الإشعاع الإلكتروني تتيح قراءة آنية لكل المواد المسجلة، وهو ما يجعل وظيفة التعريف ذات مردودية متزايدة كمّا وكيفا
أما العنصر الثاني من تقنية التعريف بالموجات فهو الآلة القارئة التي بوسعها قراءة الرقّاقة بمجرد إرسالها إشعاعا كهرومغناطيسيا، فيما يمكن في حالة بطاقة تعريف بالموجات غير نشطة التقاط الإشعاع عبر هوائية تنقلها إلى الرقاقة التي ترسل المعلومة باستعمال المجال المغناطيسي الذي تحدثه الآلة القارئة. بينما في حالة الرقاقات الإلكترونية الحيوية التي تتوفر بحوزتها طاقة داخلية، فإن الرقاقة قادرة على أن ترسل باستمرار ذبذباتها دون الحاجة إلى وجود آلات قارئة.
لكن هذه الرقاقات الإلكترونية إن كانت ذات حجم كبير ولها معدل حياة محدود، فإنها عكس الرقاقات غير النشطة التي تتوفر على مصدر متباين من الطاقة في القوة، كما يمكن أن نقارن بين العديد من الرقاقات الإلكترونية، بحسب طاقتها التخزينية وتنوع مناطق المعلومات التي بداخلها أو قابليتها للشحن من جديد أو بحسب الوصول إلى معطياتها ومستوى الأمن الذي تحظى به معلوماتها.
ومهما كانت القدرات الخاصة بشرائط الذبذبات والموجات وحسن مطابقتها مع بعض الاستعمالات، فإن المتأمل في فوائد تقنيات أنظمة التمييز الإلكترونية بالنسبة إلى الشفرات المُسطّرة يلحظ أنها كثيرة، ويذكر منها أن هذه التقنية قادرة على التقاط أي معلومة، بمعنى أننا في غير حاجة كي نضع الرقاقة أو الشريحة الإلكترونية بجانبها من أجل قراءتها والتعرف عليها. كما أن القراءة التلقائية عبر الإشعاع الإلكتروني تتيح قراءة آنية لكل المواد المسجلة، وهو ما يجعل وظيفة التعريف ذات مردودية متزايدة كمّا وكيفا. ومن السهل إشراك تقنية التعريف الإلكتروني مع لاقطات سلكية أو لاسلكية وتسهيل الاتصال بها، الأمر الذي يمكن من التقاط معلومات أخرى خاصة بمحيطها كالحرارة، والحموضة، والرطوبة، والحركة بجوارها. أما الفائدة الكبرى فتكمن في إمكانية الحصول على جميع المعلومات في ظرف قياسي بواسطة الشبكة.
وإذا كانت الرقاقة الإلكترونية لا تحمل إلا رقما تعريفيا وحيدا يتيح تمييز الشيء المرقم، فإنه من الضروري تسجيله لكي يتم الوصول بيسر إلى المعلومات الخاصة به، فرقم التعريف، هو بمثابة مفتاح الفهرس للوصول إلى قواعد هذه المعطيات. بيد أن المستوى الجديد الذي تقدمه المزاوجة بين تقنيات تحديد الهوية بالموجات الإشعاعية وتقنيات الاتصال كشبكة الإنترنت، يتجلى في إمكانية تخزين واقتسام رؤية تدفق الأشياء في وقتها الحقيقي، ما دام أن كل حدث أو بضاعة أو أي شيء مرتبط برقم تعريفي، يمكن التقاطه عبر تقنية التعريف بالموجات.
استعمال شرائح تعمل بفضل تقنية ترددات الراديو الإشعاعية سيعم العالم في أمد قصير ويشمل اليوم بطائق الهوية وجوازات السفر ووسائل النقل وبطاقات الائتمان والأداء البنكي
التعريف الإلكتروني وشبكة المعلومات
يسفر الجمع بين شبكات المعلومات وتقنيات أنظمة التمييز الإلكتروني عبر تقنية تحديد الهوية بالموجات عن رؤيتين مختلفتين:
الرؤية الأولى خاصة بالإنترنت، حيث توفر الشبكات العديد من المعلومات والمواضيع والأشياء والأشخاص، لكن “إنترنت الأشياء” هو عبارة عن مجال جديد يشمل الأشياء والأمكنة في عالمنا الواقعي. فالإنترنت في صيغته الحالية لا يتسع كي يشمل عالما غير العالم الإلكتروني. لذا فإن هدف “إنترنت الأشياء”، هو أن يتسع لكي يتم الربط بين الإنترنت والعالم الحقيقي عبر بطائق إلكترونية تحمل شفرات مسطرة للأشياء والمواد أو الأمكنة.
أما الرؤية الثانية فهي مستقبلية وبالغة التعقيد تتطلع إلى تحقيق ثورة جديدة، ففي غضون الـ20 سنة المقبلة ستكون أعداد المبحرين على شبكة الإنترنت، مهما ارتفعت أعدادهم صغيرة بالقياس مع حجم وأرقام الأشياء التي يمكن أن تتواصل بينها عبر الاتصال الإلكتروني. وهنا يكفي الرجوع إلى تقرير الاتحاد العالمي للاتصالات السلكية واللاسلكية في عام 2005، تحت عنوان “إنترنت الأشياء” والويب التشاركي 0.2.
باحث جامعي، مركز أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون