نجاح سلام العراقية

عندما زارتنا في بغداد نهاية ثمانينات القرن الماضي، كانت موضع احتفاء قل نظيره، ليس لأن ما يربط الفنانة اللبنانية نجاح سلام ببغداد أكثر بكثير من الأغاني، بل لأنها تركت في هذه المدينة التي أحبتها شلالات من الحنين. لتعود إليها بينما الحرب مع إيران تترقب أن تصمت مدافعها.
كنا نحيط بها أربعة صحافيين في صالة فندق المنصور ميليا، فهي بالنسبة إلينا أشبه بمادة صحافية لا تفوّت. وكانت تأمل أن نثير علاقتها مع ألحان ناظم نعيم ووديع خوندة ورضا علي. وعندما أستعيد اليوم الأسئلة التي تداولنا على إطلاقها عليها أشفق على “تقليديتنا” الصحافية آنذاك!
تحدثتْ بلغة تترك في طياتها مفردات عراقية بنبرة لبنانية جميلة، وبثقافة موسيقية مدركة لعلوم الغناء.
نجاح سلام التي لوحت لنا بيدها هذا الأسبوع في رحلة الغياب الأبدي، من جيل غنائي نسائي عربي كان يتوق إلى بغداد في نهاية أربعينات وخمسينات القرن الماضي، عندما تحولت ألحان صالح الكويتي ووديع خوندة ورضا علي وعباس جميل ويحيى حمدي وناظم نعيم لأصوات سليمة مراد العراقية وزكية جورج وفائزة أحمد السوريتان ونرجس شوقي وسعاد محمد المصريتان وسميرة توفيق اللبنانية، قبلة لمطربات عربيات.
لذلك كانت تنتظر منا أن نسألها عن أداء ألحان عراقية، عندما غنت آنذاك بحسها اللبناني أغاني عراقية من بينها قصيدة “يا مليكا للعراق والقلوب” التي لحنها الموسيقار العراقي صالح الكويتي.
هناك كمّ من أغاني المطربات العربيات في أربعينات وخمسينات القرن الماضي بألحان عراقية في غاية التعبيرية، ومن بينها بعض أغاني نجاح سلام التي رحلت عن عالمنا هذا الأسبوع، لكن لسوء حظ التاريخ الغنائي لا نعرف من يحتفظ بها.
لم أزل أتذكر القصة التي روتها لنا ونحن أشبه بتلاميذ صغار في حضرتها عن زيارتها الأولى إلى العراق في خمسينات القرن الماضي مع والدها في حافلة قادمة من سوريا. قالت “توقفت الحافلة أمام مقهى في الطريق الصحراوي وبقيت نائمة في الحافلة، غير أن أبي نزل لشرب الشاي، لكنه سرعان ما عاد وقال لي تعالي لأريك ما يفرحك”!.
كانت المفاجأة التي لا يمكن أن تغادر ذاكرة نجاح سلام، فقد عُلّق على جدار ذلك المقهى العراقي صورة كبيرة لها ومكتوب أسفلها المطربة الناشئة نجاح سلام. روت لنا تلك القصة أشبه بأغنية مفعمة بشعور غامض إزاء حبها للعراق.
في تلك الزيارة التي استمرت بضعة أشهر غنت في حفلات جمعت ملحني ومطربي العراق حيث ارتبطت بصداقة معهم ومن بينهم الفنان ناظم الغزالي الذي طالما رددت أغانيه وشاركا مع الفنان فهد بلان عام 1963 في فيلم “يا سلام على الحب” الذي كتبه وأخرجه الفنان اللبناني محمد سلمان.
أتذكر حفلة نجاح سلام في المسرح الوطني ببغداد عام1987، وكيف أدت أغنية “شلونك عيني آغاتي” كتبتها بنفسها ووظفت فيها بعض أغاني ناظم الغزالي ولحنها الفنان فؤاد مؤمن عازف الأكورديون الذي كان يرافقها في أغلب حفلاتها، كما أدت أغنية وطنية مشتركة مع الفنان صلاح عبدالغفور، بقي التلفزيوني العراقي يبثها أشبه بلازمة عاطفية في كل احتفال.
رحلت نجاح سلام لكنها عبّرت عن نفسها وتاريخها قبل اعتزالها ببضعة أشهر في أغنية “يا زمان الوفا” التي كتبها إيلي بيطار ولحنها جورج مارديروسيان، استعادت فيها أمواجا من الحنين إلى زمن غنائي مفعم بالوفاء، فيما أخرجها برؤية سينمائية أكرم قاووق، وكأنه يقول لنا إن الأغاني لا تموت!
تتساءل نجاح سلام في تلك الأغنية الرائعة عن أين ذهب أهل زمان الوفاء، عندما تركوا لها رياح الجفاء… لتصل إلى “حرموني الغفا/ناموا وارتاحوا” وها هي اليوم تلتحق بهم لترقد بسلام، بينما ليس بمقدورنا أن نبدد الحنين إلى زمانها.