نبوءة مالتوس تحققت.. الأرض ضاقت بمن عليها

هل أزمة الغذاء التي يشهدها العالم، ودفعت حكومات أوروبية إلى السماح بتناول بروتينات مستخلصة من الحشرات والخنافس وحتى الصراصير، تعويضا عن البروتينات الحيوانية، ودفعت أيضا مغازات كبرى في لندن لتقنين شراء الخضار وحددته بثمرتين من الخيار والطماطم والفلفل للمستهلك الواحد، مجرد “شدة وتعدي”، كما كل الشدائد، أم واقع جديد علينا التعايش معه؟
إن كنا من بين المتفائلين الذين يؤمنون بقدرة البشر على إيجاد الحلول، مهما اشتدت الظلمة، فنحن نخدع أنفسنا وندفن رؤوسنا في الرمال حتى لا نرى الحقيقة. وهي حتما حقيقة صادمة.
يبدو أننا معشر البشر نتشارك جميعا حلما لن يتحقق، وننتظر حدوث معجزة تعيد الزمن إلى الوراء، نستفيق بعدها على عالم خال من التلوث ومليء بفرص العمل والوفرة الغذائية.
◙ من يظن أن الدول الفقيرة وحدها تعاني من ندرة المواد الغذائية عليه أن يراجع معلوماته.. والمتفائلون الذين ينتظرون حلا تأتي به التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
نعم سنستفيق. ولكن، لنتأكد أن زمن الوفرة قد انتهى، وذهب إلى غير رجعة، وعلينا الآن أن نعيد برمجة عاداتنا في التسوق والغذاء، ومن يظن أن السيطرة على كورونا وانتهاء الحرب الأوكرانية – الروسية سيضعان حدا للأزمة عليه أن يستعد لسماع الأخبار السيئة.
كورونا والحرب سرّعا من أزمة كانت قد بدأت، وكنا نسير إليها ببطء وثبات. للأزمة التي نشهدها اليوم أسباب ثلاثة لا علاقة لها بالجائحة ولا بالحرب: تزايد عدد السكان، الوفرة المادية والتغيرات البيئية.
الأزمة يمكن اختصارها بعبارة واحدة، إن كنا نريد تجاوزها علينا أن نقولها بصراحة مطلقة متجاوزين كل المحرمات، ودون أن نخشى لومة لائم: “الأرض ضاقت بمن عليها”.
الكثيرون استهجنوا ما جاء به الباحث السكاني والاقتصادي الإنجليزي توماس روبرت مالتوس، الذي إن ذكر في مناهج التعليم، يلعن. إن لم يكن علنا، فبالخفاء. خاصة من قبل هؤلاء الذين يؤمنون عن قناعة لا تتزحزح أن الطفل يأتي إلى الدنيا حاملا رزقه معه، ويرون في كثرة الإنجاب، الذكور منهم خاصة، مصدرا للتباهي والتفاخر.
والمعروف أن مالتوس لم يكن أول من بحث في نظرية نمو السكان، فابن خلدون سبقه إلى ذلك في القرن الرابع عشر، حيث تحدث عن الصلة الوطيدة بين عدد السكان ومستوى الحضارة، وبين أن عدد السكان عامل هام في تقسيم العمل وفي النمو.
وأتت نظريته عن الصلة الوطيدة بين عدد السكان ومستوى الحضارة، مخالفة لكل ما قاله مالتوس. ففي مقدمته يمدح ابن خلدون التكاثر، ويشير إلى قيمة القوة السكانية وقدرتها على تحقيق النمو.
وفق ابن خلدون، تؤدي الزيادة السكانية إلى الزيادة في درجة العمران، أما نقصها فيعيق النمو في بدايته ويضعفه في نهايته. وقد ذكر أن الترف يزيد الدولة قوة، وأن الوصول إلى مرحلة الترف يحتاج إلى كثرة التناسل، التي تستكثر بالتالي الموالي والصنائع. وأن الدول قليلة العدد يقل فيها الرزق والكسب لقلّة العمالة، وينخفض فيها العمران.
الرافضون لنظرية مالتوس وقفوا، بدراية أو دون دراية، إلى جانب العلامة ابن خلدون. وهذا ما اعتقده جميع من جاء بعده من علماء الاجتماع.
◙ من يظن أن السيطرة على كورونا وانتهاء الحرب الأوكرانية – الروسية سيضعان حدا للأزمة عليه أن يستعد لسماع الأخبار السيئة
ويعود الفضل إلى مالتوس المولود عام 1766، في قلب النظرية رأسا على عقب، ووضع نظرية متكاملة في علم السكان، نجح في فرضها على علم الاقتصاد، وهي أن العلاقة وطيدة بين تطور عدد السكان وتطور كمية الإنتاج.
ويكون مالتوس بذلك قد أدخل من خلال عنصري الزمن والحركة في دراسة الفعاليات الاقتصادية، في وقت كانت الفعاليات فيه تدرس وتحلل وفق أسس سكونية راكدة. وكان لدخول عامل السكان في صميم السياسة الاقتصادية أن تشكل علم خاص يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الاقتصاد هو علم السكان.
لو أخذنا بنظرية مالتوس حول السكان، فإن الاختلال بين الزيادة في السكان والزيادة في المواد الغذائية، سيؤدي إلى ضرورة تدخل عوامل خارجية من شأنها إعادة التوازن بين نمو السكان ونمو المواد الغذائية. وقد حدد مالتوس نوعين من العوامل؛ الأول، ما أسماه بالموانع الإيجابية، مثل الحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض.
إلى جانب الموانع الإيجابية، تحدث مالتوس عن نوع آخر من الموانع، أطلق عليه اسم الموانع الوقائية، التي تحد من نمو السكان وتسهم في خفض نسبة المواليد، وتعتمد هذه الموانع على إرادة الإنسان في “منع الشر قبل وقوعه”. فإذا كان الرجل قادرا ماديا على الزواج فليتزوج، أما إذا كان غير قادر على إطعام الأسرة التي يزمع تكوينها، فعليه بالصوم، إما بتأخير سن الزواج أو إلغائه بشكل كامل.
كان مالتوس قاسيا في نتائجه، التي أدانت الفقراء الذين يتزوجون كي ينجبوا أطفالا ليس لهم مكان على مائدة الطبيعة. ويعتقد مالتوس أن ليس للفقراء الحق في طلب المعونة، ما داموا قد اقترفوا ذنبا بحق أنفسهم، بمعارضتهم قوانين الطبيعة وعدم الإصغاء لصوت العقل، ناسين أنهم السبب الوحيد لما هم فيه من فقر وتعاسة، وهم وحدهم الذين يستحقون اللوم.
بلغة رياضية بسيطة، ما قاله مالتوس هو أن أعداد السكان تتضاعف مرة كل 25 عاماً، إذا لم تقم عقبات تحول دون ذلك. أما الإنتاج الزراعي (الغذائي) فإنه لن يستطيع مواكبة هذه الزيادة.
بالطبع، نظرية مثل هذه كان لها أن تجلب على رأس مالتوس الكثير من المتاعب، والكثير أيضا من الكارهين. وقد يكون السبب أن الحقيقة مؤلمة، ليس فقط أحيانا، بل دائما. والاستشهاد بما قاله خطيئة بالنسبة إلى الكثيرين، حتى بمن لم يسمع سوى باسمه.
مالتوس وضع كتابه مقالة في مبدأ السكان عام 1798، حينها كان عدد سكان الأرض مليار نسمة، اليوم يبلغ عدد سكان الأرض 8 مليارات نسمة.
◙ إن كنا من بين المتفائلين الذين يؤمنون بقدرة البشر على إيجاد الحلول، مهما اشتدت الظلمة، فنحن نخدع أنفسنا وندفن رؤوسنا في الرمال حتى لا نرى الحقيقة
ولو لم تبادر بعض الدول، الكثيفة في عدد السكان، إلى اتخاذ قرارات تتعلق بالسيطرة على الإنجاب، أحيانا بقوة القانون، كما في الصين، وأحيانا أخرى بنشر الوعي، لبلغ عدد سكان العالم اليوم 20 مليارا أو أكثر.
استطاع العالم أن يواكب هذه الزيادة بفعل تحسن وسائل الإنتاج وتطورها إلى أن بلغ الإنتاج ذروته، ليبدأ بعد ذلك العامل البيئي في التدخل.
مالتوس لم يعش في عصر البيئة فيه مهددة. ولم يكن يتخيل أن العالم سيواجه نقصا حادا في المياه بسبب التلوث والجفاف. الإنتاج الزراعي اليوم ليس فقط لا يواكب الزيادة السكانية، بل هو في تناقص حاد.
من يظن أن الدول الفقيرة وحدها تعاني من ندرة المواد الغذائية عليه أن يراجع معلوماته.. والمتفائلون الذين ينتظرون حلا تأتي به التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، أو يأتي به استعمار كواكب بعيدة عن الأرض، قد يطول انتظارهم.
أهلنا في بلاد الشام يقولون “شدة وتعدي”. ولكن الخوف هذه المرة أن الشدة لن تعدي.. هي باقية معنا إلى أن نجد لها حلا لا نعرف حتى هذه اللحظة ما هو، ومتى يأتي.