نادي الصراعات في السودان والمنطقة

الصراع المسلح في السودان خبر سيء لجهود إطفاء الحرائق في المنطقة. أجواء التفاؤل التي صاحبت الهدوء النسبي في عدد من الجبهات المشتعلة، تبددت الآن. ما يحدث في السودان اليوم هو تذكير بطبيعة المشاكل المؤجلة في منطقتنا. هذه المشاكل، مثل أشباح المساكن القديمة، تطاردك لتمنع نومك.
ثمة جهود مخلصة وقرارات سياسية لعبت أدوارا في تهدئة المنطقة. سياسة “تصفير المشاكل” التي بدأتها الإمارات كان لها أثر ملموس. قمة العلا الخليجية غيرت من نسق العلاقة مع الشغب القطري في المنطقة بإتاحة الفرصة للدوحة كي تتراجع عن سياساتها. التفاتة الرياض للداخل وفق مبدأ “السعودية أولا” خففت من حدة التوترات مع القوى الإقليمية المنافسة. أعاد تقييد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للإيرانيين بتعليق الاتفاق النووي الغربي مع إيران، فرض حسابات جديدة على طهران.
◙ يبدو أن لا حل في السودان يمكن أن يجد صيغة توافقية بين الطرفين، هذا على فرض بقاء الصراع بين طرفين وعدم دخول أطراف أخرى لها تاريخ طويل في العضوية في نادي الصراعات في السودان
لكن انتصارات وهزائم ساعدت على سكون الجبهات. فشل هجوم المشير خليفة حفتر على طرابلس، فتغيرت ديناميكيات العلاقات والتحالفات في ليبيا. اختنق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اقتصاديا، فأعاد النظر بسياسة استعادة الإمبراطورية العثمانية تحت مسمى النفوذ التركي – الإخواني. لم تتمكن قوى المعارضة من هزيمة قوات الرئيس السوري بشار الأسد، فصار الطريق ممهدا لإعادة النظر في الملف السوري عربيا وإقليميا من جديد. يئست جميع أطراف الحرب في اليمن من تحقيق نصر حاسم على الأرض، فعادت إلى استقبال الوسطاء وإجراء المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة. أفلست إيران ماليا، فهدأ روع حزب الله وحماس وصارا يتحاشيان استسهال التصعيد مع إسرائيل. هزيمة داعش في العراق وسوريا لا يمكن الاستهانة بها، رغم ما صاحبها من دمار في المدن وإعادة الانتشار للميليشيات التابعة لإيران في المنطقة. ارتباك التيار الصدري وتماسك الإطار التنسيقي منعا حربا أهلية بين المكونات الشيعية في العملية السياسية في العراق، وثبتا سلطة حكومة تحاول أن تسترضي الجميع، داخليا وإقليميا ودوليا. حتى الهزيمة الأولية للدول أمام وباء كوفيد ثم الانتصار عليه بفضل اللقاحات، لعبا دورا في استتباب الهدوء في المنطقة. الحروب الأهلية لا يمكن أن تشن بسهولة، ولا يمكن للجماعات السياسية أن تؤجج الوضع على الأرض طالما ثمة فايروس يتربص بالجميع. الزلزال سوى الأرض للمصالحات مثلما سوى المنازل بالأرض.
لا يمكن الاستهانة بتأثير الحرب في أوكرانيا. لم يبق شيء على حاله في العالم، لا سياسيا ولا اقتصاديا. غيرت حرب أوكرانيا قواعد اللعبة العالمية إستراتيجيا، وأسهمت في إعادة توزيع مراكز الثقل المالية وفي تغيير طريقة وصول إمدادات الطاقة إلى الغرب وفي شح الكثير من المواد الاستهلاكية، فأثير التساؤل: هل يوجد ما يكفي لإطعام شعوب الأرض؟ وإذا كانت هذه المواد متوفرة، فهل لدى الدول المال الكافي لشراء ما تحتاجه من حنطة وشعير وأرز وزيت؟ احتار الفقراء في كيفية تدبير سدّ جوعهم وانشغل الأغنياء بإحصاء المال الإضافي الذي صار يأتيهم من واردات بيع النفط والغاز. أمام مشهد الصراع الغربي – الروسي – الصيني، ساد سلوك سياسي مهذب بين الدول في المنطقة، عدا استثناءات مفتعلة مارستها دول مثل الجزائر إلى حدّ الآن لا أحد يعرف كيف يبررها.
لبضعة أشهر، لم يكن أحد في المنطقة يتحدث بغير أسعار الغذاء وتراجع الماليات العربية. صلوات الاستسقاء في الجوامع صارت أهم من الدعاية الإخوانية. لا يوجد ترف لأحد أمام مشاكل مصيرية مثل كميات الحبوب المخزنة ونسبة الجفاف وهل تستطيع دول مرهقة ديمغرافيا توفير الأساسيات لشعوبها.
ثم باغتت الأزمة السودانية الجميع.
لا بد من الإشارة إلى حجم الإهمال العربي والدولي الذي سبق اشتعال الأزمة. من الصعب الحكم إن كان هذا مقصودا أم لا. كانت كل المؤشرات تقول إن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يسيران إلى صدام لن يكون بسيطا. ربما كان هناك بعض التحرك السياسي المكتوم، وشاهدنا قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وهما يزوران العواصم ويستقبلان المبعوثين. لكن من الواضح أن أيا من جهود احتواء الأزمة المتصاعدة بينهما لم تحقق نتيجة. الدهشة المصرية أمام اندلاع القتال وعدم الاستعداد الإستراتيجي لها وتعثر التعامل مع الأزمة إلى يومنا هذا، يطرح الكثير من التساؤلات عن الطريقة التي تنظر بها القاهرة إلى أحد أهم مجالاتها الحيوية، بالقرب الجغرافي والاعتماد المائي. وصل الأمر إلى درجة انحياز مصر المكتوم إلى الجيش السوداني، المعروف بولاءاته الإخوانية.
◙ لا يمكن الاستهانة بتأثير الحرب في أوكرانيا لم يبق شيء على حاله في العالم لا سياسيا ولا اقتصاديا. غيرت الحرب قواعد اللعبة العالمية إستراتيجيا وأسهمت في إعادة توزيع مراكز الثقل المالية
أو ربما الأمر ليس كذلك. أنت أمام قوتين عسكريتين لا يمكن الاستهانة بهما. أي جهود للمصالحة قبل اشتعال المعارك، أو مساع للوساطة بعد انطلاق المواجهات، كانت حلا مؤقتا. هكذا تصرفت الدول الغربية، بحديثها مع البرهان وحميدتي بالأسلوب نفسه وعلى المستوى ذاته. الغرب يستغل فرصة انشغال روسيا بحرب أوكرانيا والصين بالتصعيد الغربي ضدها في شرق آسيا، لترك الصراع في السودان يأكل نفسه بنفسه. لا يمكن تصور أن هدنة من أي نوع يمكن أن تصمد في وجود قوتي الجيش والدعم السريع على حالهما ودون انكسار قوة منهما أمام أخرى. ينتظر الغرب أن يرى منْ ينتصر على منْ في الصراع السوداني، ومن ثم يتعامل معه. في هذه الأثناء يقوم بإجلاء الرعايا الغربيين، ويطلق يوميا التصريحات عن ضرورة إيقاف الحرب والعودة إلى طاولة الحوار أو الاتفاق الإطاري وعن ضرورة قبول حكم مدني في السودان. طالما لن تتدخل روسيا أو الصين في الصراع، فهو “فخار يكسر بعضه” لا بأس أن يستبق وهما غربيا بقيام حكم ديمقراطي في السودان.
لكن لا مصر ولا السعودية ولا الإمارات مرتاحة لما يجري هناك. قد تتصرف هذه الدول بميل لهذا الطرف أو ذاك. إلا أنها تعرف مخاطر تمدد الصراع على أمنها القومي المباشر. ربما تبدو هذه الدول تساير سياسة التواصل الغربية مع الجميع، وحريصة على عدم التدخل، بل التأكيد على الخروج مما يوحي بأنها طرف في الأزمة كما حدث مع القوات المصرية في السودان. إلا أنها عاجلا أم آجلا ستحس بتأثيرات الأزمة على الإقليم. انظروا أين أوصلنا إهمال حروب علي عبدالله صالح – الحوثي الست في صعدة. لماذا يمكن أن نتخيل أن الصراع في السودان لن يتمدد إقليميا. وفي الوقت نفسه، يبدو أن لا حل في السودان يمكن أن يجد صيغة توافقية بين الطرفين، هذا على فرض بقاء الصراع بين طرفين وعدم دخول أطراف أخرى لها تاريخ طويل في العضوية في نادي الصراعات في السودان.
نسينا بسرعة الابتسامات التي صاحبت لقاءَيْ بكين بين السعودية وإيران. وعادت أشباح الحرب إلى المنطقة، هذه المرة من دون إسرائيل أو إيران. مشاكل المنطقة على حالها ومن الضروري ألّا نخلط بين سكون الجبهات وحياة أساسها السلام. نادي الصراعات في المنطقة مليء بالأعضاء، وثمة قائمة طويلة أخرى من الذين ينتظرون دورهم في الحصول على العضوية.