مَدْنَنة الدولة بالجزائر عقدة ضاربة في التاريخ

تحولت مسألة مدنية الدولة في الجزائر إلى عقدة وصراع مزمن بين السلطة والمعارضة، ففي حين يتمسك الناشطون الجزائريون بضرورة تحييد المؤسسات عن النفوذ العسكري، تسعى السلطة اليوم نحو المزيد من تمكين القادة العسكريين وعسكرة الدولة أكثر من أي وقت مضى، حتى أنها باتت تمنع الناشطين والمعارضين من المشاركة في إحياء ذكرى أحداث سياسية مفصلية في تاريخ البلاد.
الجزائر - تحولت الذكرى المخلدة لأول مؤتمر للثورة التحريرية الجزائرية إلى مصدر تجاذب سياسي بين السلطة والمعارضة في البلاد، إذ يحاول كل طرف استغلال تصورات المؤتمر لصالحه؛ فالسلطة تعتبره محطة تاريخية ساهمت في تنظيم وإرساء قواعد الثورة، بينما تعتبره المعارضة ميلادا لخيار الدولة المدنية التي تضع العسكري في خدمة السياسي، وتصورا لإقامة دولة تفصل بين المؤسسات وتكرس نظاما ديمقراطيا يبعد الشأن السياسي عن نفوذ العسكر.
فقد منعت السلطات الجزائرية سياسيين وناشطين معارضين من حضور أول مؤتمر لقيادة الثورة التحريرية في منطقة القبائل بمناسبة ذكراه السنوية المصادفة للعشرين من أغسطس، وتم توقيف البعض منهم في مخافر الشرطة، على غرار فتحي غراس وكريم طابو وعلي العسكري وغيرهم، للحيلولة دون وصولهم إلى المكان التاريخي.
ويعتبر اليوم الوطني للمجاهد واحدا من الأعياد الوطنية المكرسة في نصوص الدولة الجزائرية، وتم تقييده كعيد وطني من أجل إحياء ما يعرف بهجمات الشمال القسنطيني في 20 أغسطس 1955 بقيادة أحد الرموز المفجرة للثورة التحريرية وهو زيغود يوسف، وذكرى انعقاد مؤتمر الصومام في بلدة إيفري أوزلاغن بمحافظة بجاية في العشرين من أغسطس 1956.
ويعتبر المؤتمر المذكور محطة تاريخية هامة في مسار الثورة الجزائرية، من ناحية تنظيم وتوسيع وتكريس المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي. غير أنه أثار جدلا سياسيا وأيديولوجيا بين النخب الثورية وفجر خلافات عميقة مازالت تداعياتها قائمة إلى حد الآن، لأنه أسس لخيار الطابع المدني للدولة، لكنّ نخبا عسكرية من المناضلين رفضت التصور وكرست مكانة الجيش في الدولة منذ ذلك الحين إلى غاية الآن، وتمت تصفية عراب إفرازات المؤتمر المناضل التاريخي عبان رمضان بعد ذلك بعام.
◙ خيار مدننة الدولة هو الفاصل الذي فرق بين النخب السياسية والرسمية في الجزائر، وهو في قلب الأزمة المستشرية منذ عقود
ويرى متابعون للشأن الجزائري أنه رغم الزخم الشعبي الذي تميز به الحراك الشعبي، إلا أن علاقته ظلت تتميز بالطابع العادي إلى غاية ظهور شعارات مستلهمة من تصورات مؤتمر الصومام تطالب بـ “الدولة المدنية”، وعندها انقلب كل شيء في تلك العلاقة، لأن القيادة الفعلية في البلاد أدركت أن الاحتجاجات بدأت تلامس الخطوط الحمراء وأبرزها مكانة الجيش في الدولة، لأن تمدينها سيؤدي إلى نهاية نفوذ العسكر داخل مفاصلها.
وكانت شعارات الحراك الشعبي آنذاك واضحة “عبان رمضان خلى (ترك) وصية.. دولة مدنية ماشي (ليست) عسكرية”، وهو ما أثار غضب النخب العسكرية الفاعلة ودفعها إلى الإيعاز بقمع وتعنيف واعتقال المتظاهرين، فقد أحست بأن تغذية الاحتجاجات السياسية بتصورات وأفكار مؤتمر الصومام قد بلغت حدها الأقصى، وأن المسألة لم تعد تحتمل أي ليونة تجاه هؤلاء، لأن مكانة المؤسسة أصبحت في خطر.
وفي كلمة له دعا القيادي السابق في جبهة القوى الاشتراكية علي العسكري الجزائريين إلى “عقد مؤتمر جديد في مكان مؤتمر الصومام، لإحياء الأفكار التي وضعها عرابوه من أجل بناء دولة وطنية تقوم على دولة مدنية، تستقل وتتعدد فيها المؤسسات وتبعد الجيش عن إدارة الشأن العام”.
وحض المتحدث فواعل الحراك الشعبي على عدم الاستسلام لآلات القمع والتضييق، وعلى استلهام العبر والدروس من الذكرى التي أسس لها قطاع عريض من رموز الثورة التحريرية وعلى رأسهم عبان رمضان، ودعا إلى استغلال رمزية المكان والزمان لعقد مؤتمر يفرض الدولة المدنية كمبدأ وخيار للدولة، لتكريس الروابط الأساسية بين جيلي الثورة والحراك.
ويبدو أن السلطة التي تتجه اليوم إلى عسكرة الدولة أكثر من أي وقت مضى -حيث بات دور الجيش يتغول يوميا- غير مستعدة للعودة إلى الخلف أو التنازل لصالح هؤلاء، ولذلك قامت بعزل مناضلين وناشطين سياسيين وتوقيفهم قبل الوصول إلى مكان انعقاد المؤتمر التاريخي، لأنها كانت تدرك أن رمزية الثورة كفيلة بتحفيز هؤلاء على رفع مطلب مدننة الدولة مجددا.
وتعتبر نخب سياسية معارضة في الجزائر أن المؤتمر المذكور هو المحطة التي وضعت أسس الدولة المدنية والديمقراطية والحقوق والحريات، ولذلك فهو يمثل مصدر إلهام للأجيال الشابة التواقة إلى إحياء تلك الأفكار والتصورات، لاسيما إبعاد المؤسسة العسكرية عن إدارة الشأن العام من خلف الستار.
ورغم أن المصالح الأمنية أوقفت رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي غير المرخص له كريم طابو، وفتحي غراس رئيس الحركة الديمقراطية الاجتماعية، وزوجته مسعودة شبالة، والقيادي السابق في جبهة القوى الاشتراكية علي العسكري وغيرهم، بغية منعهم من الوصول إلى مكان الانعقاد، إلا أن المئات كانوا في الموعد حيث رددت الشعارات السياسية المناوئة للسلطة، بينما غابت الاحتفالات الرسمية التي تنظمها السلطة في مثل هذه المناسبة.
ويبدو أن السلطة التي تمكنت من إسكات صوت الاحتجاجات الشعبية بمختلف الممارسات المتشددة تجاه المعارضين، لم تستطع محو المطالب الأساسية للحراك الشعبي من نفوس وأذهان المناوئين لها، فسرعان ما تصم آذانها الشعارات التي دوت في مدن البلاد خلال السنوات الماضية، سواء كان ذلك في ذكرى تاريخية أو حتى في جنازة كما حدث منذ أشهر مع جنازة ابن أحد المناضلين الموقوفين في السجن.
السلطة التي تمكنت من إسكات صوت الاحتجاجات بممارسات متشددة تجاه المعارضين لم تستطع محو المطالب الأساسية للحراك الشعبي من نفوس وأذهان المناوئين لها
ويبقى خيار مدننة الدولة هو الفاصل الذي فرق النخب السياسية والرسمية في الجزائر، وهو في قلب الأزمة المستشرية منذ عقود، فكما لقي التوجه مقاومة نخب ثورية في خمسينات القرن الماضي، تستمر مقاومته وحتى مناقشته من طرف ورثة هذه النخب في دولة الاستقلال، والمؤسسة العسكرية على ما يبدو ليست مستعدة لأي تنازل في هذا المجال.
ولذلك فإن كل التجاذبات والحسابات بين مختلف الأجنحة، والتي تعطي الانطباع في بعض الأحيان بأنها محاولة للتقليص من نفوذ العسكر، ما هي إلا صدام مصالح ينتهي في الغالب بسقوط هذا وصعود ذاك، لكنه لم يحدث أن كان في صالح الدولة المدنية التي أسس لها مؤتمر الصومام وطالب بها الحراك الشعبي، ولئن كان الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة قد قص أجنحة المؤسسة فإن ذلك لم يكن إلا في صالح دكتاتورية الأوليغارش.