ميخائيل غورباتشوف، أو كيف تهدم الإمبراطورية السوفييتية في خمسة أعوام

زعيم يشيد به الغرب ويرى فيه الروس نقطة سوداء في تاريخ بلادهم.
الخميس 2022/09/01
زعيم يمقته الروس

كان ميخائيل غورباتشوف زعيما مؤمنا بأهمية السلام في حياة الشعوب، لكنه لم يكن يعلم أنه سيكون هادم الإمبراطورية السوفييتية رغم الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي وضعها لتحديث الاتحاد، وهو في نظر الغرب زعيم إيجابي يحتذى به لكنه في نظر الروس هو مدمر قضى على نفوذ بلدهم كقوة عالمية عظمى.

موسكو - لم يكن ميخائيل غورباتشوف، خريج النظام الشيوعي، ليتصور أنه سيغير وجه العالم من خلال قضائه على الاتحاد السوفييتي وإن بغير قصد، ما أكسبه احتراما كبيرا في الغرب بينما ينظر الروس إليه بمرارة.

وحكم غورباتشوف روسيا من 1985 إلى 1991 وشهدت نهاية حكمه بدء تفكك الاتحاد السوفييتي. وتوفي في روسيا الثلاثاء عن 91 عاما، جراء “مرض عضال وخطر”، على ما أعلن المستشفى حيث كان يعالج.

ونعاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل مقتضب حيث قال إن "غورباتشوف سياسي ورجل دولة كان له تأثير كبير على تطور تاريخ العالم”، وأضاف أنه “قاد بلادنا خلال فترة من التغييرات المعقدة والمؤثرة وتحديات سياسية كبيرة خارجية واقتصادية واجتماعية".

وجاءت وفاة آخر رئيس لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في خضم الهجوم الذي يشنه الرئيس الروسي في أوكرانيا وقد باشره في الرابع والعشرين من فبراير الماضي ويعتبره البعض محاولة جديدة لإحياء الإمبراطورية الروسية.

ولد غورباتشوف في عائلة مزارعين وسلك مسيرة تقليدية في الحزب الشيوعي قبل أن يصبح في 11 مارس 1985 في سن الرابعة والخمسين زعيما للاتحاد السوفييتي. وكان الاتحاد السوفييتي يومها يعاني من أزمة اقتصادية وغارقا في حرب طال أمدها في أفغانستان.

وتميز بصغر سنه. ففي أقل من ثلاث سنوات بعد وفاة ليونيد بريجنيف في 1982، عرف الحزب الشيوعي السوفييتي أمينين عامين متقدمين في السن هما يوري اندروبوف وقسطنطين تشيرنينكو اللذان توفيا في هذا المنصب.

وكان غورباتشوف مدركا أن الأزمة ستتفاقم فأطلق برنامج “بريسترويكا” وسياسة “غلاسنوست” (الشفافية والانفتاح) لإصلاح النظام السوفييتي والحد من نفوذ الحرس القديم في الحزب الشيوعي.

فبات الملايين من السوفييت يتمتعون بحريات غير مسبوقة، لكنهم عانوا أيضا من نقص في السلع ومن فوضى اقتصادية وحركات قومية قضت على الاتحاد السوفييتي وهو أمر لم يغفره له الكثير من مواطنيه. وقال غورباتشوف لوكالة فرانس برس في يناير 2011 “بطبيعة الحال أنا نادم على أشياء، ارتُكبت أخطاء كبيرة".

فخلال فترة حكمه حصلت تجاوزات فدخلت الدبابات السوفييتية إلى ليتوانيا وقمع المتظاهرون السلميون في جورجيا وفي 1986 وقعت كارثة تشرنوبيل النووية التي بقيت طي الكتمان لمدة أيام ما ساهم في تعريض مئات الآلاف من الأشخاص لتلوث إشعاعي.

زعيم مثير للجدل         

الزعيم الراحل كثيرا ما كان مثار اهتمام القادة الغربيين
الزعيم الراحل كثيرا ما كان مثار اهتمام القادة الغربيين 

في الغرب كان غورباتشوف يثير اهتمام القادة الغربيين من المستشار الألماني هلموت كول إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغن، بسبب انفتاحه على الحوار. وقالت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عنه "يعجبني غورباتشوف إنه رجل يمكن التعامل معه".

وأظهر الزعيم السوفييتي أنه مختلف عمن سبقوه في هذا المنصب مع إبرامه اتفاقا حول نزع السلاح النووي ورفضه التدخل عسكريا للدفاع عن الستار الحديد وسحبه الجيش الأحمر من أفغانستان.

وتعزز احترام الغرب له مع ضبط النفس الذي أبداه عندما انهار جدار برلين والأنظمة الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا. ونال جائزة نوبل للسلام في 1990.

يوري روست: ميخائيل غورباتشوف يعتبر أكثر الزعماء الروس إيجابية

وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز الحائز على جائزة نوبل أيضا "أهم الأحداث في القرن الماضي كانت تحرر المرأة وتحرير روسيا". لكن الروس يعتبرون عموما أن غورباتشوف قضى على نفوذ بلدهم كقوة عالمية عظمى. وكان رحيله عن السلطة مهينا بعض الشيء.

وعند انتخاب بوريس يلتسين بالاقتراع العام رئيسا لروسيا السوفييتية في يونيو 1991 حاول غورباتشوف إنقاذ الاتحاد السوفييتي باقتراحه حكما ذاتيا داخليا واسعا.

إلا أن المشروع فشل في التاسع عشر من أغسطس 1991 عندما حاول التيار المتشدد في الحزب إطاحته إلا أن بوريس يلتسين، خصم غورباتشوف اللدود، كان المقاوم الأكبر لمحاولة الانقلاب الفاشلة هذه.

وانهار الاتحاد السوفييتي المتعثر أساسا، في ديسمبر مع إعلان بيلاروس وأوكرانيا أن الاتحاد السوفييتي “لم يعد موجودا”. واستتبع ذلك إعلان غورباتشوف استقالته في الخامس والعشرين من ديسمبر.

وتقول المؤرخة إيرينا كاراتسوبا “كان رجلا سياسيا عفويا لم يفكر أبدا بالتداعيات، أراد غورباتشوف تغيير كل شيء من دون أن يغير شيئا في الجوهر".

وأضافت “انهارت الاشتراكية ذات الطابع الإنساني سريعا عندما انهارت أسعار النفط وخسر الروس الحرب الباردة. ستطرح تساؤلات كثيرة حول لغز غورباتشوف حول ما إذا كان قادرا على التحكم به وخلاف ذلك".

وتعاطف الروس معه فقط في العام 1999 عندما توفيت زوجته رايسا بعد إصابتها بسرطان الدم. وكان غورباتشوف لا يتردد خلافا للعادات الروسية، في التعبير علنا عن حبه لزوجته التي عرفت بأناقتها.

ويرى الكاتب والمصور يوري روست أن غورباتشوف كان “أكثر الزعماء إيجابية” في روسيا لأنه سعى لجعل هذا البلد يثير “الاحترام” بدلا من “الخوف”. لكن ما من شيء كان يشير إلى أنه سيحظى بهذه المسيرة الخارجة عن المألوف.

مسيرة غير مألوفة

مسيرة زاخرة توجها غورباتشوف بمناشدته لإحياء السلام عبر العالم
مسيرة زاخرة توجها غورباتشوف بمناشدته لإحياء السلام عبر العالم 

روى ميخائيل غورباتشوف أنه نشأ “في قرية لا كهرباء فيها ولا جهاز راديو” وانتقل في سن التاسعة عشرة إلى موسكو بعدما كان يقود حصادة قمح في بلدته و”استقل للمرة الأولى القطار” للتوجه إلى الجامعة.

وخلال دراسته القانون انخرط في الحركة الطالبية للحزب الشيوعي المعروفة باسم “كومسومول”. ولدى عودته إلى سيفروبول عمل بدوام كامل في هذه المنظمة وبرز سريعا في الفرع المحلي للحزب الشيوعي.

ولفت أنظار يوري اندروبوف الذي كان يومها مديرا لجهاز الاستخبارات السوفييتية (كاي جاي بي) فنقله إلى موسكو في 1978 حيث انضم إلى اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي قبل أن يصبح الزعيم الأخير للاتحاد السوفييتي.

◙ وفاة غورباتشوف أثارت سيلا من الإشادات في الغرب لدوره الحاسم في إنهاء الحرب الباردة ومعركته من أجل السلام

ومنذ مغادرته السلطة انخرط غورباتشوف في الدفاع عن البيئة وأنشأ مؤسسة غورباتشوف المكرسة للدراسات الاجتماعية الاقتصادية. وفي العام 1996 ترشح للانتخابات الرئاسية في مواجهة بوريس يلتسين لكنه لم يحصل إلا على 0.5 في المئة من الأصوات.

ومع تراجع صحته تدريجيا وابتعاده في السنوات الأخيرة عن الساحة العامة، أعرب عن بعض الندم وأقر ببعض الأخطاء. فبعدما كان لاذعا بانتقاده بوتين مؤكدا أنه يشعر بـ”الخزي” لأنه دعمه في البداية، راح يوجه انتقاداته بشكل أكبر إلى الدول الغربية بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014 وحذر مرارا من قيام حرب باردة جديدة.

وفي فبراير 2019 ندد في مقال رأي بقرار الولايات المتحدة الانسحاب من معاهدة حول الأسلحة المتوسطة المدى التي وقعها مع رونالد ريغن في العام 1987 معتبرا أنه “دليل على رغبة الولايات المتحدة بالتخلص من كل القيود في مجال التسلح وتحقيق تفوق عسكري مطلق".

لكن قبل وفاته، لم يعلق مغورباتشوف علنا على غزو موسكو لأوكرانيا. في حين أثارت وفاته سيلا من الإشادات في الغرب لدوره الحاسم في إنهاء الحرب الباردة ومعركته من أجل السلام، في ردود فعل ترتدي أهمية خاصة بعد ستة أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا.

اقرأ أيضا 

محطات كبرى في قيادة ميخائيل غورباتشوف للاتحاد السوفييتي

7