موقف تركيا تجاه النقاشات السياسية الساخنة يهدد ديمقراطيتها

بينما بدأ العد التنازلي للانتخابات العامة المقبلة في تركيا وسط تدهور اقتصادي حاد يُنذر بسقوط الرئيس رجب طيب أردوغان يزداد غياب النقاش السياسي الساخن والمناظرات التلفزيونية بما بات يهدد الديمقراطية في البلاد خاصة بعد الانتكاسات التي تعرضت لها الحريات في ظل حكم أردوغان.
أنقرة - في الوقت الذي يُعدّل فيه الأتراك ساعاتهم على الانتخابات العامة المقبلة المُقرر تنظيمها في العام 2023 تتصاعد التساؤلات بشأن الانتكاسات التي تعرضت إليها الديمقراطية في البلاد والتي يُعد تغييب النقاشات السياسية الساخنة والمناظرات التلفزيونية بين القادة السياسيين أحد أبرزها.
وبينما يُمثل البث التلفزيوني للأفكار والاختلافات سمة من سمات الديمقراطية في الدول الغربية يغيب ذلك عن تركيا منذ وصول الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الحكم رئيساً للوزراء في العام 2002 حيث أصبح التلفزيون التركي منبراً لإيصال الصوت الواحد وهو صوت حزب العدالة والتنمية ورئيسه الذي يواجه شبح الإطاحة به من الحكم.
تغييب النقاشات

ألكسندرا دي كريمر: اختفاء الخطاب السياسي الشفاف أدى إلى استبعاد أجيال من الناخبين
تُشكل النقاشات السياسية الساخنة والمناظرات التلفزيونية حيث يطرح القادة السياسيين رؤاهم لإدارة الشأن العام وغيرها عنصرا أساسياً من عناصر الديمقراطية، لكن هذا العنصر تم تقويضه في تركيا أردوغان وهو ما ستكون له عواقب وخيمة على الديمقراطية التركية.
وتقول ألكسندرا دي كريمر وهي صحافية مقيمة في إسطنبول إنه “في تركيا الجديدة الواقعة تحت إمرة أردوغان، أدى غياب النقاش الساخن إلى إعفاء القادة من العمل لنيل أصوات الشعب، وهمّش الناخبين المتشككين من جدوى عملية الانتخابات، وبعبارة أخرى، كلما طال غياب السياسيين عن دائرة النقاشات الساخنة، كلما قصر عمر الديمقراطية في تركيا”.
وظهر البرنامج المفضل للمتفرجين المعنيين بالشأن السياسي والمعروف باسم المناظرة لأول مرة على التلفزيون التركي في عام 1983، وفي ذلك الوقت، كان الملايين ينجذبون إلى شاشاتهم لمشاهدة السياسيين وهم يحددون البرامج الحزبية ويدافعون عنها.
وصار من الشائع مشاهدة موظفي الحكومة وهم يتناظرون ويتبارزون بالكلمات في أوقات الذروة على التلفاز لدرجة أن ذلك النقاش الساخن انتقل من مستوى السياسة الوطنية إلى المستوى المحلي.
وكما هو الحال في بعض دول العالم، فقد رفعت المناظرات السياسية بعض السياسيين الأتراك وخسفت بالبعض الآخر. فأردوغان نفسه على سبيل المثال صعد إلى المشهد السياسي الوطني من على منصة المناظرات، ففي حملة انتخابات عام 2002 لمنصب رئيس الوزراء التركي، دفع نقاش ساخن أثناء أوقات الذروة على التلفزيون رئيس بلدية إسطنبول آنذاك ورئيس حزب العدالة والتنمية إلى أعلى منصب في البلاد، حيث تفوق أردوغان على رئيس حزب الشعب الجمهوري دنيز بايكال.
وفي 2007، أدى نقاش ساخن إلى سحق تطلعات نائب رئيس حزب العدالة والتنمية دنجير مير محمد فرات، الذي استقال من منصبه بعد شهرين من مناظرته التي استمرت 95 دقيقة مع عضو البرلمان من حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو.
واتهم كيليجدار أوغلو فرات بالفساد، وقد أصبح أوغلو فيما بعد رئيسًا لحزب الشعب الجمهوري بعد أن تغلّب على عمدة أنقرة مليح جوكجيك في مناظرة أخرى، وكان المسرح السياسي في أكثر حالاته إفادة وتسلية.
إقصاء أجيال من الناخبين
منذ ذلك الحين، خيّم الهدوء على منصة النقاش الساخن أو مسرح المناظرات. وعلى الرغم من الدعوات العديدة من المنافسين لأردوغان إلا أنه تجنب تلك المناظرات رغم كونه خطيبا مفوّها.
ويقول رئيس التحرير السابق لصحيفة “حرييت ديلي نيوز” مراد يتكين، إن “أردوغان منع أعضاء حزب العدالة والتنمية الآخرين من الظهور في المناظرات التلفزيونية، ويعد حظر مشاركة الآخرين في المناظرات تآكلًا آخر للحريات الديمقراطية في تركيا ودليلًا إضافيًا على إحكام أردوغان قبضته على المشهد السياسي”.
ويعد الحظر المفروض على المناظرات السياسية على شاشة التلفاز أمراً واضحاً بشكل خاص في تركيا، حيث يعتبر التلفزيون المصدر الرئيسي للمعلومات والأخبار، على سبيل المثال وجدت شركة “كوندا”، وهي شركة معنية باستطلاعات الرأي ومقرها إسطنبول، أن 67 في المئة من الأتراك علموا لأول مرة بمحاولة الانقلاب عام 2016 من خلال شاشة التلفزيون.
وفي الواقع، يقضي الأتراك معظم أوقات فراغهم في مشاهدة التلفزيون، حيث قدر تقرير صدر في عام 2020 من شركة ”تي في أودينس رسرتش كومباني لميتد” أن الأتراك يقضون أربع ساعات و3 دقائق يوميًا في مشاهدة التلفزيون، وبالطبع، لا يتابع الجميع الأخبار على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، لكن مقدار الوقت الذي يقضيه المواطن التركي أمام شاشة التلفزيون يوضح مدى أهمية التلفزيون في معظم المنازل.
ولكن التغطية الإخبارية في تركيا تميل نحو الحزبية بصورة واضحة، فقد كشفت إلهان تاسكي وهي ممثلة حزب الشعب الجمهوري عن هيئة مراقبة البث التركية، في المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون (أر تي يو كي)، أن أحزاب المعارضة لا تحصل تقريبًا على أيّ وقت على الهواء.

مراد يتكين: حظر المناظرات يعكس إحكام أردوغان قبضته على المشهد السياسي
وخلال الحملة الانتخابية لعام 2018، والتي استمرت من السابع عشر من أبريل إلى السادس من مايو، لم تمنح شركة الإذاعة والتلفزيون التركية العامة أيّ وقت بث لحزب الشعوب الديمقراطي (أتش دي بي)، ومنحت ثلاث ساعات وأربع دقائق لحزب الشعب الجمهوري، و36 ساعة لحزب العدالة والتنمية.
ومما زاد من حدة تلك المخاوف هو أن نصف الناخبين الذين سيدلون بأصواتهم في الانتخابات العامة المقبلة لن يكون لديهم أي ذكريات عن رؤية مناظرة سياسية متلفزة، فشباب الجيل المنتمي لفئة “زد”، وهم حوالي 5 ملايين نسمة ولدوا بعد عام 1997، ويمثلون 16 في المئة من الناخبين، وسيدلون بأول أصواتهم في الانتخابات الوطنية العام المقبل، بينما يشكل جيل الألفية، المولود بعد عام 1981، 33 في المئة.
وكانت المرة الأخيرة التي رأى فيها الناخبون في تركيا شيئا يشبه المناظرة السياسية هو في عام 2019، وكان ذلك اجتماعًا رزينا وحازما على الشاشة بين علي يلدريم من حزب العدالة والتنمية وأكرم إمام أوغلو من حزب الشعب الجمهوري في حملة للفوز بمنصب عمدة إسطنبول. ولم يتحدث أيّ من الرجلين مباشرة مع الآخر، ولم يكن هناك نقاش مستعر، ولا مضمون، ولا شيء من شأنه أن يؤثر على نتيجة انتخابات رئاسة البلدية.
وبالنظر إلى اضمحلال النقاش الساخن في تركيا على مدى عقدين من الزمن، والأدلة من البلدان الأخرى على أن مثل هذه الأحداث لها تأثير ضئيل على نتائج الانتخابات، فيجدر التساؤل عن تداعيات ذلك على الديمقراطية التي تبدو وكأنها تعاني من انتكاسة تلو الأخرى في هذا البلد وسط تشديد أردوغان قبضته على السلطة.
ورأت دي كريمر، التي عملت كمراسلة في الشرق الأوسط لصحيفة ميلييت حول الربيع العربي من بيروت، وتتراوح أعمالها ما بين الشؤون الحالية إلى القضايا الثقافية، وقد ظهرت في مونوكل وكارير وماقزين وميسن فرانسيسكو وأخبار الفن في إسطنبول، أن “اختفاء الخطاب السياسي الشفاف أدى إلى استبعاد أجيال كاملة من الناخبين من العملية السياسية، ومنع الشباب من نيل حقوقهم والتحلي بمسؤولياتهم كمواطنين، فقد بلغ الملايين من الناخبين سن الرشد ولم يروا أيّا من رجال السياسة وهم يبذلون أي جهد لنيل أصواتهم أو يتم استدعاؤهم علنًا لمحاسبتهم على أخطائهم. ولا شعوريًا، تم ترويض الناخبين الشباب في تركيا على عدم توقع وفاء السياسيين بوعودهم، أو حتى تقديم وعود والتزامات”.
وتابعت أنه “ربما يكون افتقار تركيا إلى ‘الكفاءة’ السياسية والقضاء على المساءلة العامة هي أكبر التحولات في المشهد السياسي في البلاد منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وقد اعتاد الناخبون على أن يتجنب السياسيون الأتراك المحاسبة أو التعامل المباشر مع المعارضة، والسياسة اليوم في تركيا هي صندوق أسود”.
وشددت دي كريمر على أنه “لسوء الحظ، ما نتج عن ذلك هو سرد منفرد، يمكّن صوتاً واحدًا على حساب العديد من الأصوات الأخرى، وموقف أردوغان المتمثل في تجنب خوض النقاشات الساخنة العامة هو سبب رئيسي لهذا الاتجاه، وبينما يستعد المرشحون لخوض المعركة في الانتخابات العامة للعام المقبل، سيحتاج الناخبون إلى الإدلاء بأصواتهم بناءً على ما يُقال في قنوات الإعلام الرسمية، ولكن الأهم من ذلك، هو ما لا تقوله قنوات الإعلام الرسمية”.