مواقف هنري كيسنجر في الشرق الأوسط.. من حرب أكتوبر إلى غزة

إرث دبلوماسي مثير للجدل أعاد تشكيل المنطقة وخارطة النفوذ فيها.
الجمعة 2023/12/01
رحل كيسنجر لكن إرثه باق

على الرغم من تركه منصبه في منتصف السبعينات، استمرت أجيال من القادة لعقود من الزمن في استشارة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الذي كان مهندس التغييرات في العالم، من الحرب الباردة إلى الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا اللاتينية.

واشنطن - بوفاة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الأربعاء أسدل الستار على حقبة من السياسات الأميركية التي غيرت العالم. وكان لمنطقة الشرق الأوسط نصيب من هذه التغييرات يختلف محللون في تقييم آثاره على المنطقة.

ولم يقتصر تأثير كيسنجر على الفترة التي كان فيها على رأس الدبلوماسية الأميركية وإنما مواقفه بشأن عدة أحداث جارية في الشرق الأوسط تجد آذانا صاغية لدى صناع القرار الأميركي والعالمي.

ومن حرب أكتوبر والسلام في الشرق الأوسط إلى حرب العراق والربيع العربي وحرب روسيا على أوكرانيا وصولا إلى الحرب الإسرائيلية على غزة كانت لكيسنجر مواقف جدلية.

حرب أكتوبر

هنري كيسنجر كان "رجل السلام" الذي أفضت جهوده إلى توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل لاحقا
هنري كيسنجر كان "رجل السلام" الذي أفضت جهوده إلى توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل لاحقا

 

باستخدام “الدبلوماسية المكوكية” سطع نجم وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، بعد حرب أكتوبر عام 1973، وكان “رجل السلام” الذي أفضت جهوده إلى توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل لاحقا.

 

وشكل كيسنجر، حسب شبكة “سي أن أن” الأميركية، ما يعرف باسم “الدبلوماسية المكوكية” للفصل بين القوات الإسرائيلية والعربية بعد تداعيات حرب يوم الغفران عام 1973.

واندلع هذا الصراع بعد أسبوعين من أداء كيسنجر اليمين كوزير للخارجية مع احتفاظه بمنصبه في البيت الأبيض كمستشار للأمن القومي.

وكانت حرب الستة عشر يوما التي بدأت في 6 أكتوبر 1973، بهجمات منسقة على إسرائيل من قبل مصر وسوريا، أصعب الاختبارات في حياة كيسنجر المهنية، حسب ما تشير إليه صحيفة واشنطن بوست.

وهددت الحرب وجود إسرائيل، وأشعلت مواجهة مع الاتحاد السوفييتي، وألهمت السعودية وغيرها من مصدّري النفط العرب بفرض حظر نفطي أدى إلى شل تدفق الوقود في العالم.

وساعدت “دبلوماسيته المكوكية” الشهيرة بعد حرب عام 1973 في استقرار العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب.

وتفاوض كيسنجر على إنهاء حرب يوم الغفران عام 1973 التي أشعلتها الهجمات المشتركة بين مصر وسوريا على إسرائيل.

ويعرف كيسنجر بدوره كوسيط بين إسرائيل والدول العربية، وفي 1973 بعد الهجوم المباغت للدول العربية على إسرائيل نظم جسرا جويا كبيرا لمد الحليف الإسرائيلي بالأسلحة.

وجاء وقف إطلاق النار في أعقاب الجسر الجوي الأميركي إلى الدولة اليهودية والذي أثبت أهميته لدرء التقدم الأولي للجيوش العربية.

دبلوماسي محنك لا يهاب شيئا
دبلوماسي محنك لا يهاب شيئا

وكان هو ومسؤولون أميركيون آخرون يشعرون بالقلق من أن الصراع قد يتصاعد إلى أول صراع عسكري مباشر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، الراعي الرئيسي للقاهرة ودمشق.

وفي النهاية كانت نتائج الحرب إيجابية في معظمها، وانتهى القتال عندما وافق الرئيس المصري أنور السادات على إجراء محادثات عسكرية مباشرة مع الإسرائيليين.

وكان كيسنجر قادرا على الحفاظ على أساسيات “الانفراج” مع استبعاد السوفييت من مفاوضات السلام التي تلت ذلك.

ومن أجل تمديد وقف إطلاق النار الهش وتحقيق الاستقرار في العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، قام كيسنجر بما أصبح “مهمته المميزة”.

وابتداءً من يناير 1974 ذهب إلى الشرق الأوسط 11 مرة للترويج لاتفاقيات فض الاشتباك العسكري التي من شأنها تسهيل حقبة جديدة من مفاوضات السلام.

ومن أكثر مهمات “الدبلوماسية المكوكية” شهرة الماراثون الذي استمر 34 يوما في ربيع 1974، حيث زار القدس 16 مرة ودمشق 15 مرة، وسافر إلى ستة دول أيضًا.

ولم يسفر الماراثون عن أي اتفاق سلام دائم خلال فترة تولي كيسنجر منصبه، لكنه نجح في تحقيق الاستقرار في منطقة مضطربة وجعل الولايات المتحدة “وسيطا حصريا” في الشرق الأوسط، مع استبعاد الاتحاد السوفييتي.

وكان كيسنجر من أشد المنتقدين للسياسة الخارجية للرئيسين الأميركيين جيمي كارتر وبيل كلينتون، وقال إن “الرئيسين يريدان تحقيق قفزة سريعة للغاية نحو السلام في الشرق الأوسط”، لكن بالنسبة إلى كيسنجر لا يمكن أن يحدث ذلك إلا “خطوة خطوة”.

العراق قبل الغزو وبعده

 إستراتيجية كيسنجر تكمن في الانتصار على التمرد
 إستراتيجية كيسنجر تكمن في الانتصار على التمرد 

تطرق الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل إلى الجانب السلبي من شخصية كيسنجر، بين فصول كتابه “الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق” .

ويقول هيكل “وكان العراق -أولا وأخيرا- طرفا رئيسيا في قضية تكدس السلاح في منطقة الشرق الأوسط، لأن الولايات المتحدة اعتبرت أن الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بنظام الشاه -وهو أقرب الأصدقاء إلى أميركا وإسرائيل- ضربة قاسية لها، ومن ثم فإنها لم تدخر جهدا في تسهيل تسليح العراق حتى يستطيع صد المد الإسلامي الإيراني، ومعاقبة ثورة الخُميني وجموحها الجارف”.

وعن النوايا غير الطيبة يشير هيكل إلى أن الحاصل هو أن الإستراتيجية الأميركية سعت إلى ضرب إيران بالعراق، والعراق بإيران، وقصدها استهلاك قوة بلدين لا يمكن الاطمئنان إليهما معا على المدى الطويل.

وكانت تلك السياسة هي التي سميت فيما بعد بسياسة “الاحتواء المزدوج”، وقد عبر عنها كيسنجر بالقول “هذه أول حرب في التاريخ أتمنى ألا يخرج بعدها منتصر، وإنما يخرج طرفاها وكلاهما مهزوما!”.

كيسنجر حذر من أن الصراع في الشرق الأوسط ينطوي على خطر التصعيد وإشراك دول عربية أخرى تحت ضغط الرأي العام

كما قال كيسنجر في السابق لما اشتدت الحرب بين العراق وإيران في بداية الثمانينات، إن “الهدف الذي نحاول الوصول إليه من جراء هذا النزاع يكمن في القضاء على من نعتبرهما قوتين معاديتين لأميركا، لا نحب العراق ولا إيران؛ كلاهما عدو لمصالحنا الإستراتيجية في المنطقة وفي العالم بأسره بناء على النظرية التي تقول إن جغرافيا العالم الاقتصادي كتلة واحدة في مفهوم السياسة الأميركية الخارجية. وهذا معروف منذ نشأة دولة الولايات المتحدة الأميركية في العصر الحديث”.

وبعد دخول الولايات المتحدة وحلفائها العراق عام 2003 عقد كيسنجر اجتماعات مع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني لتقديم المشورة لهما بشأن السياسة هناك. وقال لهما إن “الانتصار على التمرد هو إستراتيجية الخروج الوحيدة”.

وفي حديثه عن الحرب في العراق على وجه التحديد قال كيسنجر لصحيفة نيويورك تايمز بعد ذلك بعام إن بوش “أراد تحويل العراق إلى نموذج لإمكانية التطور الديمقراطي داخل العالم العربي”.

وفي مقال بصحيفة واشنطن بوست تحت عنوان “لا تنسوا العراق”، ونُشر عام 2010، حذر كيسنجر مما وصفه بإهمال العراق، ودعا إدارة الرئيس باراك أوباما آنذاك إلى التركيز على العراق باعتباره محورا إستراتيجيا في المنطقة.

وقال كيسنجر إن الإدارة الأميركية تراجعت خلال سنتها الأولى عن طرح الأهمية الإستراتيجية للعراق وعلاقة الولايات المتحدة بها للنقاش.

حرب غزة

Thumbnail

بعد الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في الشهر الماضي قال كيسنجر إن إسرائيل مضطرة إلى فرض عقوبة ردا على ذلك، وإن وقف إطلاق النار السريع أمر مستحيل، حسب ما ذكرته صحيفة وول ستريت جورنال.

وقال في مقابلة مع ماتياس دوبفنر، الرئيس التنفيذي لشركة أكسل سبرينغر، لقناة فيلت التلفزيونية الألمانية إن محادثات السلام “لا يمكن تصورها بالنسبة إلي” إذا “تمكن الإرهابيون من الظهور علانية واحتجاز الرهائن وقتل الناس”.

وردا على سؤال حول شعوره تجاه احتفال العرب بهجوم حماس في شوارع برلين، من خلال توزيع الحلوى، أجاب كيسنجر بأنه “لا يوجه اللوم إلى الشعب الألماني”. لكنه قال إن الألمان سمحوا لعدد كبير جدا من الأجانب بدخول البلاد.

وأضاف “لقد كان من الخطأ الفادح السماح بدخول هذا العدد الكبير من الأشخاص من ثقافات وأديان ومفاهيم مختلفة تماما، لأن ذلك يخلق مجموعة ضغط داخل كل دولة تفعل ذلك”.

وقال كيسنجر إن “العمل العدواني الصريح” الذي تقوم به الفصائل الفلسطينية يجب أن يقابل بـ”بعض العقوبات”، بينما حذر من احتمال حدوث تصعيد خطير في المنطقة.

وحذر كيسنجر أيضا من أن الصراع في الشرق الأوسط ينطوي على خطر التصعيد وإشراك دول عربية أخرى تحت ضغط الرأي العام، مشيرا إلى الدروس المستفادة من حرب أكتوبر عام 1973.

وأضاف الدبلوماسي الكبير والسابق أن من المحتمل أيضا أن تتخذ إسرائيل إجراءات ضد إيران، إذا اعتبرت أن طهران كانت لها يد في القيام بالهجوم.

اتفاق السعودية وإيران

في مقال رأي نشرته صحيفة واشنطن بوست في مارس الماضي تطرق الكاتب ديفيد إغناتيوس إلى الاتفاق بين السعودية وإيران. وكتب في مقاله “قال لي كيسنجر خلال مقابلة أجريت معه (…): إنني أرى أنه تغيير جوهري في الوضع الإستراتيجي في الشرق الأوسط”.

ونقل عن كيسنجر قوله “السعوديون يوازنون الآن بين أمنهم لدى الولايات المتحدة وأمنهم لدى الصين”.

7