مواصلة العمل بعد التقاعد اضطرار وليس اختيارا مع صعوبات العصر

التقاعد من الناحية النظرية يعني الابتعاد عن الحياة المهنية والأعمال المتعبة وبداية مرحلة من الراحة لكن بالنسبة إلى الكثيرين هي استمرار لمسيرة أخرى من العمل سواء لتأمين مستلزمات الحياة أو من أجل عدم الاستسلام لحالة من اليأس تنتاب المتقاعد وتدخله في اكتئاب مزمن.
تونس - يعيش المتقاعد مرحلة جديدة من الحياة ونقله نوعية مع مواجهة وقت كبير من الفراغ، قد تصيبه بالإحباط والاكتئاب مع بدء مرحلة الشيخوخة، أو أن تكون هذه المرحلة مناسبة لتجديد العطاء واستغلال الخبرات المتراكمة، للبدء في نشاطات متنوعة والتخلص من شبح الفراغ الذي قد يكون أشد إيلاماً من العمل.
لكن فئة ممن تقاعدوا منذ سنوات لا يعني لهم بلوغ سن التقاعد فرصة للراحة أو المكوث في البيت، وذلك بخيارهم لمواصلة مسيرة العمل لسنوات أخرى في مهن مختلفة لمواجهة أعباء الحياة والتكاليف المتزايدة للعائلة.
ويبلغ سن التقاعد في تونس حاليًا 60 عامًا في انتظار المصادقة على مشروع حكومي لرفعه إلى سن 62 عامًا وهو ما يثير الكثير من الجدل بين رافض ومؤيد.
وباتت العمل بعد سن الستين عامًا ظاهرة منتشرة في تونس، إذ غالبا ما يمتهن المتقاعدون بعض الأعمال التجارية أو الحرف أو المهن مثل سياقة سيارات الأجرة وغيرها من المهن رغم أنهم لم يكونوا يعملون بها في شبابهم وهي بعيدة عن مجال اختصاصهم.
وفي حين أن التقاعد من الناحية النظرية يعني الابتعاد عن الحياة المهنية والأعمال المتعبة وبداية راحة مستحقة بعد سنوات طويلة من الجهد ليتحرر المتقاعد من قيود الوقت والرسميات ويكتفي بذكريات أيامه في العمل، لكن بالنسبة إلى الكثيرين هو فرصة لكل من هو قادر على العطاء للمزيد من العمل مجددًا، وعدم الاستسلام لحالة من اليأس تنتاب المتقاعد وتدخله في اكتئاب مزمن. فالبقاء في حالة نشاط والتزام يدعم الصحة العقلية والجسدية في سن التقاعد.
خيبة الأمل هي الشعور الذي يصيب المتقاعدين بعد مرور بعض الوقت، لأن التوقعات والخطط غير صالحة للتنفيذ
ويقع بعض المتقاعدين -خاصة الرجال- في حالة من الاكتئاب، وهو ما تناولته دراسة بعنوان “اعمل لفترة أطول تعش أصح” أعدها غابرييل سالغرين، وخلص فيها إلى أن حالات الاكتئاب المبلغ عنها ذاتيا، ترتفع بنسبة 40 بالمئة في سنوات التقاعد الأولى.
وقد يؤدي التقاعد إلى تدني الحالة المزاجية أو تفاقم أعراض اكتئاب التقاعد. ففي البداية قد يستمتع المتقاعد بفكرة الاستلقاء والراحة لأيام، ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة قد يبدأ في التوق إلى امتلاك النظام أو الروتين، وبالتالي يشعر بالتعاسة أو اليأس.
ومهما كانت تحديات الحياة الوظيفية ومصاعبها، فإن التقاعد يمكن أن يمثل تحديات أكثر صعوبة في التأقلم. ويمكن أن تكون الأمور صعبة بشكل خاص إذا اضطر الموظف أو العامل إلى التقاعد قبل أن الشعور بالاستعداد للأمر، أو إذا كانت لديه مشكلات صحية تحد مما يمكن القيام به في هذه الفترة.
في المقابل هناك فئة كبيرة من المتقاعدين لا تعرف الراحة، وتختلف أسباب اللجوء إلى العمل الموازي لمنحة التقاعد بين شخص وآخر غير أن أهم هذه الأسباب هي مجابهة غلاء المعيشة، وهناك أيضا سببا آخر وهو محاربة الفراغ والاكتئاب لدى من تعودوا على وتيرة حياة نشيطة.
ومحمّد من بين هؤلاء المتقاعدين الذين يواظبون على العمل في عمر متقدّم، وهو أمر ضروري بالنسبة إليه.
ورغم بلوغه سنّ الـ63 عامًا إلا أنّه اختار مواصلة العمل في الحرفة التي تميز سكان منطقته. رغم أنّه كان موظفًا في إحدى المؤسسات الحكومية، وكان يعمل بعد الدوام في نسج السجاد من الساعة الخامسة حتى ساعات متأخرة من الليل ليحافظ على حرفة الأجداد، التي مكنته من دخل إضافي كان يساعده مع أجره الشهري على مواجهة مصاريف الأسرة. وباتت تلك الحرفة تساعده اليوم أيضًا على توفير دخل جيد لاسيما أنّ المعاش لم يعد يكفيه لمجابهة غلاء المعيشة وارتفاع أسعار أغلب المواد الأساسية.
والكثير من المتقاعدين من ذوي الدخل المنخفض تقابلهم زيادة أعباء الحياة وغلاء المعيشة، وبالتالي أصبحت مواصلة العمل بالنسبة إليهم اضطرارًا أكثر منه اختيارًا وذلك لتغطية الحاجيات اليومية نظرًا لضعف راتب التقاعد.
ويضطرّ العديد من المتقاعدين للالتحاق بالعمل مجددًا بدلا من الراحة بعد تعب سنين من أجل إعالة أبناء مازالوا يدرسون أو تخرجوا ولم يجدوا عملًا، فيصبح من الضروري عليهم البحث عن عمل جديد لينتقلوا من عبء السنين والكبر إلى تحمّل أعباء أخرى والبحث عن طريقة جديدة لتحصيل القوت. هي أعباء تختفي معها الصورة الوردية المعروفة عن مرحلة التقاعد وراحة البال ليتحمّل بعضهم روتينًا آخر قد يكون أكثر ثقلًا.
ويقول الحاج ابراهيم بعد أن قضى أكثر من 30 سنة كموظف حكومي يقضي فيه غالبية نهاره، بات يجوب يوميًا أغلب شوارع العاصمة بسيارة الأجرة منذ خمس سنوات بعد إحالته على التقاعد حتى أصبح أكثر قربًا من الناس.
وأضاف أنّه اتخذ قرارا قبل سنوات من إحالته على التقاعد وادخر المال الكافي لاقتناء سيارة تاكسي، موضحًا أن حاجته للمال وللابتعاد عن الاكتئاب دفعاه إلى التفكير في العمل بعد التقاعد. نظرًا لضعف راتبه فيما أغلب أبنائه مازالوا يدرسون بالجامعات.
ويعمل زميله السابق في العمل اليوم في ورشة نجارة، ويشتغل بأجر بسيط لكنّه لا يبحث عن المال بقدر ما يبحث عن عمل يشغله ويخرجه من حياة الركود في البيت، وقد وجد ضالته في عمل ممتع لا يجهده.
والتقاعد بالنسبة إلى الكثيرين لا يرقى لمستوى طموحاتهم المالية والاجتماعية، فالجميع يضع أحلاما تفوق مقدراته البدنية والمالية، وتفوق مقدرة علاقاته الاجتماعية التي يعتقد أنها ستكون داعمة له في هذه المرحلة، لكن ما يحدث هو العكس تماما.
نسبة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكثر تزداد بمعدل أسرع من معدل زيادة نسبة السكان الأصغر عمرا
وخيبة الأمل هي الشعور الذي يصيب المتقاعدين بعد مرور بعض الوقت على حياتهم الجديدة، فغالبا ما تكون التوقعات والخطط كلها غير صالحة للتنفيذ على أرض الواقع، لأنها لا يمكن أن تبدأ في لحظة التقاعد، بل قبل سنوات من الخروج النهائي من العمل.
ويقول الأخصائيون أن التخطيط لفترة التقاعد بعشر سنوات سابقة فترة كافية لتتواءم الخطط المأمولة مع الواقع المتغير، ففي كل عام هناك بعض الظروف التي قد تتغير، ويفقد بعضها صلاحيته بينما يستجد غيرها.
ويضيفون أن التخطيط للتقاعد لا يشمل الحسابات المالية فقط، لكنه يشمل -أيضا- الدائرة الاجتماعية، فعلى المتقاعد التفكير مليا في من يشاركه تلك السنوات، هل سيكون في قائمة أصدقائه من هم على استعداد للتعامل بإيجابية مع هذه المرحلة من الحياة، أو من يمتلك الحماسة والقدرة على المشاركة في نشاطات تبعد الإحباط والاكتئاب.
ووفقا لأحدث التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة بشأن الآفاق السكانية للعالم، فإن نسبة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكثر تزداد بمعدل أسرع من معدل زيادة نسبة السكان الأصغر عمرا.
وهذه الفئة العمرية تبلغ حاليا حوالي 10 في المئة من إجمالي عدد سكان الكوكب، ويتوقع أن تصل النسبة إلى 16 في المئة بحلول عام 2050، وهو ما سيعني أن عدد الأفراد الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكثر سيصبح ضعف عدد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمسة أعوام، ويكاد يساوي عدد الأطفال تحت سن الـ12 عاما.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، بحلول عام 2030، سيكون واحد من بين كل ستة أشخاص في العالم قد بلغ سن 60 عاما أو أكثر.

وتتوقع منظمة العمل الدولية أن يرتفع عدد المسنين في البلدان النامية بنسبة 350 في المئة بحلول نهاية القرن، في حين تتوقع أن تصل النسبة إلى 70 في المئة في البلدان المتقدمة (التي يوجد بها عدد أكبر من المسنين بالفعل مقارنة بالدول النامية).
وكلما ازداد عدد الأشخاص المتقاعدين عن العمل وتباطأ نمو القوة العاملة، تباطأ نمو إجمالي الناتج المحلي أيضا وازدادت الأعباء التي تتحملها الميزانيات العامة للدول بسبب ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية وبرامج معاشات التقاعد لكبار السن.
وفي المتوسط، غالبا ما يعاني الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكثر من ظروف معيشية أسوأ من تلك التي يعيش فيها أفراد السكان الذين هم في سن العمل، وفقا للأمم المتحدة.
لكن المشكلة هي أن هناك من يضطرون إلى مواصلة العمل، ولا سيما في البلدان الفقيرة والنامية، لعدم حصولهم على معاشات تقاعد على الإطلاق، أو لكون تلك المعاشات غير كافية لضمان حياة كريمة لهم.
ويشهد سن التقاعد ارتفاعاً في العديد من الدول في أرجاء العالم، الأمر الذي سيكون له أثر بالغ على الأشخاص بطرق مختلفة.
فالأعمال التي تستوجب التفكير والاعتماد على القدرات الذهنية سيكون تأجيل سن التقاعد بالنسبة إلى العاملين بها وتمديد فترة العمل أمراً ممكناً، في حين لن يكون كذلك بالنسبة إلى الذين يزاولون أعمالاً تعتمد على القدرات الجسدية.
ويحذر ديفيد بلوم، أستاذ الاقتصاد والديموغرافيا في كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد، من أنه عندما تقرر الحكومات أو الشركات تأجيل دفع رواتب التقاعد وغيرها من استحقاقات التقاعد، قد يفضي ذلك إلى حدوث اضطرابات مدنية.
ويقول بلوم “هناك أمر أعتقد أن الجميع يتذكرونه، إنه (الربيع العربي) الذي انطلق قبل عدة سنوات، وكان الأمر كله يتعلق بتطلعات لم تتحقق في الكثير من الدول”. ويضيف “أعتقد أننا قد نواجه نفس الحالة على الأرجح بين كبار السن”.