مهمة الإسلام السياسي.. تزييف الوعي واستلاب الإرادة وضرب التعايش

قوى الإسلام السياسي، جماعات أيديولوجية متمرّسة على الابتزاز، اعتادت عبر تاريخها على مساومة المجتمعات على استقلاليتها، ففي الوقت الذي أقامت الأمم الديمقراطية مجدها الحضاري على إشباع الحاجات الإنسانية، فرض الإسلاميون سطوتهم المجتمعية والسياسية عبر اختلاق الأزمات النفسية والثقافية والاجتماعية، وتكريس القلق الوجودي المعيق للتنمية والتقدم، ووضع الشعوب في مأزق الاختيار بين الدين والحرية، يحصل ذلك في سياق عمليات استلاب ممنهجة، يمارسها الإسلام السياسي لإخضاع المجتمعات وتسييرها.
الأربعاء 2016/06/15
الإخوان يقدمون أنفسهم كمنقذين من داعش

النوع الأول من ابتزاز الإسلاميين هو “الاستلاب الديني”، ويمارسه تيار الإخوان على صعيد الأيديولوجيا والخطاب؛ إذ يبتز المجتمعات بشعاره السياسي والانتخابي “الإسلام هو الحل”، فيضع الأفراد المسلمين في مأزق الاختيار بين إيمانهم الديني من جهة، وبين حقهم في انتقاء البرنامج السياسي والاقتصادي من جهة أخرى؛ فإما أن يختار الفرد انتخاب الإخوان لأنهم يمثلون الدين حسب زعمهم، فيتخلى بذلك عن طموحاته المدنية والسياسية التي تمثلها تيارات أخرى، وإما أن يمضي مع أحد تلك التيارات العلمانية أو الليبرالية فيشعر أنه تخلى عن دينه وانسلخ من هويته.

أما النوع الثاني فهو “الاستلاب الهوياتي”، وتمارسه الجماعة الإسلامية على الصعيد الاجتماعي، فتبتز المجتمع ثقافيا عندما تقسّمه على أسس عقائدية، وبقواسم عمودية جدارية تفصل بين السكان طائفيا وحزبيا، وتحوّلهم إلى خنادق معزولة وغيتوات متضادة بين مؤمنين وكافرين، وإسلاميين وعلمانيين، ومسلمين ومسيحيين، وسنة وشيعة. ثم لا تكتفي العقيدة السياسية للإسلاميين بذلك، لأن العنصرية لا حد لها ولا سقف، فتعمد إلى تقسيم المسلمين أنفسهم، وبقواسم أفقية تصنيفية تمييزية إلى طبقات فوقية وتحتية، وتجعلها عرضة للانفجار والتدمير الذاتي.

الصراع الاجتماعي يحتدم ويخرج عن نطاق السيطرة نتيجة التفاعل الحاصل بين ما تواجهه المجتمعات من أزمات طاحنة من ناحية، وبين الأزمة الدينية والثقافية، أو أزمة الهوية والبحث عن الذات، التي يعمّقها استدعاء العقيدة إلى الفضاء العام، وتسييس الدين وأدلجته، وتديين السياسة، وتزييف الوعيين الديني والسياسي.

والإسلاميون عموما، جماعات بشرية تتألف من قيادات وأفراد ينتمون إلى المجتمع بكل تناقضاته، وهم ليسوا بمنأى عن مشاكله، حتى لو أحاطوا أنفسهم بهالات من القداسة؛ بمعنى أن الوسط الإسلامي يعاني من أزمات المجتمع النفسية والاجتماعية والثقافية ذاتها، وحين تختلط كل هذه العقَد، تتطور حالته المرضية المزمنة، فيصبح نموذجا للتشوّه الاجتماعي والانغلاق الثقافي.

أما الوسط الاجتماعي الوطني، فتتفاقم أزماته الأصلية، على وقع ما تمارسه الآلة الإسلامية عليه، سياسيا ودعويا، من تلغيم عقائدي وثقافي، ممّا يقود لتعميق الشروخ الاجتماعية، وتفريخ العداوة والكراهية، وانعدام الثقة بين أفراد المجتمع، فتكون النتيجة المزيد من التفسخ الاجتماعي ومشاعر الضياع، بما يعزز البيئة المناسبة للتطرف.

وأما النوع الثالث من الابتزاز الذي يمارسه الإسلاميون بحق العقول الجمعية والفردية، فهو “الاستلاب الأمني”، ومجاله هو السياسة والإعلام، ولعل أفضل ما يعبّر عن هذا النمط من الابتزاز منشور على فيسبوك للقيادي الإخواني عزام التميمي، رئيس قناة الحوار في لندن، جاء فيه: “فليعلم القاصي والداني أن بديل الإخوان هو داعش، فمن لم يرد الإخوان فهنيئا له بداعش”.

الوسط الإسلامي يعاني أزمات المجتمع النفسية والثقافية، وحين تختلط كل هذه العقد، تتطور حالته المرضية المزمنة

وعلى مثل هذا الخطاب قامت ثورات الربيع العربي، فكانت أولى رسائلها أن المجتمعات ترفض الانصياع لمثل هذا الابتزاز من نظام أو تنظيم، وأنها لا تريد مقايضة الحرية بالأمن أو الأمن بالحرية.

حركات الإسلام السياسي اعتادت في صراعها مع الأنظمة العربية قبل ثورات الربيع، على ترويج فكرة “إقبل بي أنا حتى لا تضطر للقبول بتنظيم القاعدة”، والتي عبّر عنها مرة الصحافي الإخواني ياسر أبو هلالة، بقوله “ضرب الاعتدال يُقوّي التشدد”، مفترضا أن الإخوان بأصنافهم يمثلون الاعتدال فيما القاعدة وأخواتها تمثل التشدد.

إنها نظرية متهافتة في التفاوض بين الإسلاميين والأنظمة الحاكمة؛ لأن تجربة الصراع، قبل الربيع وبعده، أثبتت عدم خضوع الأنظمة لهذا النوع من الصفقات، إذ أن لها حسابات أخرى، وتريد الاستفادة سياسيا من كل ما هو متاح من تجليات الظاهرة الإسلامية، فقد تحتاج إلى التعامل مع السلفيين وضرب الإخوان كما في النموذج المصري، أو التعامل مع الإخوان وضرب السلفيين كما في النموذج التونسي. كما تحتاج الأنظمة إلى الاستثمار سياسيا في الخطر الأمني الممثل بداعش لتعزيز شرعيتها المحلية والدولية باعتبارها تحارب الإرهاب، فلعبة الاستثمار في الإسلام السياسي، تمكّن الأنظمة من رسم خارطة الحياة السياسية وضبط مناسيب الحريات على مقاس مصالحها، وهي لعبة مفيدة أيضا للإسلاميين، إذ تتيح لهم اكتساب الشرعية وتعزيزها، فيقدمون أنفسهم مرة كشركاء للنظام كما في تونس، أو ضحايا له كما في مصر، فيحصلون في الحالة الأولى على شرعية “سياسية”؛ التأقلم مع المتغيرات، وفي الحالة الثانية ينالون شرعية “نضالية”.

الهشاشة السياسية والأخلاقية لنظرية “أنا معتدل وداعش متطرفة”، تكشف أنها تقوم على توظيف التطرف كأداة مساومة بيد “المعتدلين”؛ الأمر الذي يُفقدهم صفة “الاعتدال”، إن كانت موجودة أصلا، ويحوّلهم إلى حلفاء للتيار المتطرف ومستفيدين سياسيا من مرتكباته العنفية في المجتمع. كما تعبّر النظرية عن براغماتية متحللة من كل شعور بالمسؤولية الأخلاقية؛ إذ كيف ترضى حركة، يفترض أنها سلمية ومؤمنة بالديمقراطية، أن تبني شرعيتها على مقارنة نفسها بتنظيم متوحش مثل داعش؟

تتناقض نظرية “أنا أو داعش” مع الدعاية الأخلاقية التي تروجها أحزاب الإسلام السياسي عن نفسها، إذ تقول إنها تنبذ العنف ضد المجتمع وتؤمن بالعمل السلمي، لكنها في الوقت نفسه تسوّق ذاتها عبر مقارنتها بنموذج صارخ للعنف العقائدي، وتغفل حقيقة أن من العنف ضد الناس أن تستغل العنف الواقع عليهم لتقدم نفسك بديلا عنه، وقد أثبتت الدولة العميقة في العالم العربي، أنها الأكثر رسوخا وقوة مما هو متصور ومن التنظيمات المعارضة لها، إسلامية كانت أم علمانية أم يسارية.

ليس أمام الإسلاميين سوى أن يتصالحوا مع مجتمعاتهم، وعلى قادة الإخوان الكفّ عن المكابرة ولعب دور الضحية، وأن يستشعروا المسؤولية الأخلاقية فيتنازلوا عن الأوهام لإنقاذ شباب الإخوان المُغرّر به، وما يترتب على ذلك من دوامات العنف والعنف المضاد.

الكرة في ملعب الإخوان، ليس أمامهم غير الاعتراف بالهزيمة، والاعتذار الصريح لمجتمعاتهم، وأن يعودوا لرشدهم وشعوبهم، فقرار الانسحاب من المواجهة هو السبيل الوحيد لفض النزاع، ووقف نزيف الدم الذي يطال الجميع.

13