مهرجان بابل يعود إلى العراق بعد عقدين من الغياب القسري

انطلقت في العراق منذ الخميس الماضي النسخة الخامسة عشرة من فعاليات مهرجان بابل السنوي الذي يعود بعد انقطاع دام قرابة العشرين عاما. وحظي المهرجان بتفاعل شعبي واسع جسده الإقبال الكثيف من الجمهور العراقي على مسرح بابل الدولي وعلى مختلف تظاهرات المهرجان، رغم انتقادات من جهات دينية واجتماعية بسبب الفقرات الغنائية التي صاحبت حفل افتتاح المهرجان.
الحلّة (العراق) - للمرة الأولى منذ نحو 20 عاما امتلأت عتبات المسرح البابلي الأثري في وسط العراق بالآلاف من الشباب والنساء والرجال والأطفال الذين حضروا لوحات رقص ومعارض فنية واستمعوا إلى الموسيقى والأغاني، في أول عودة لمهرجان بابل بعد سلسلة من الحروب والأزمات.
وفي بلد لا تزال تنشط فيه خلايا لتنظيم الدولة الإسلامية ويعيش على وقع توتر سياسي وأمني مستمر، شارك عراقيون أتوا من مناطق مختلفة على مدى خمسة أيام في أجواء من الفرح والرقص والغناء بحضور فرق فنية عراقية وعربية ودولية ذكّرتهم بأيام خلت.
سعادة العودة
عبّرت شيماء البالغة من العمر 45 عاما عن سعادتها العارمة بعودة فعاليات المهرجان الذي يعيد إلى ذهنها ذكريات الطفولة في المسرح البابلي الذي يرجح أن الإسكندر المقدوني بناه قرابة العام 311 قبل الميلاد.
المهرجان شهد حضورا جماهيريا واسعا قدمت خلاله العروض الفنية والفلكلورية من فرق تمثل أكثر من 50 دولة
وقالت المرأة التي غطت رأسها بوشاح أنيق ووقفت إلى جانبها ابنتاها “سعداء جداً أننا هنا، لم نر هكذا مهرجانا منذ سنين. أرى في ذلك تطوراً وتغييراً عن الظروف السيئة التي مررنا بها”.
وكان عام 2002 شهد آخر نسخة من المهرجان الذي انطلق للمرة الأولى في العام 1987 خلال زمن الرئيس الأسبق الراحل صدام حسين، ولا يزال قصره الذي بناه قرب موقع بابل الأثري قائماً في المكان.
وتوقّف المهرجان بعد سقوط نظام الراحل صدام حسين عقب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 بعدما دخلت البلاد في دوامة من العنف والحرب الطائفية والتفجيرات المتواصلة، ثمّ سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية بين عامي 2014 و2017.
وقالت شيماء المقيمة في مدينة الحلّة “كنت أتابع هذا الحدث عندما كنت طفلة”، مشيرة إلى أن بابل اليوم “مهملة”، معبرة عن تمنيها أن “يتم تنشيط السياحة” في المدينة التي تقع على بعد نحو 116 كيلومترا من بغداد.
وعلى الرغم من أنها موطن لآثار مهمة مدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، إلا أن مدينة الحلّة التي يوجد فيها موقع بابل الأثري تعاني من إهمال شديد وتدهور في البنى التحتية.
وعند مدخل بابل، بوابة عشتار الزمردية التي تقبع نسختها الأصلية التي بناها نبوخذ نصر الثاني في العام 585 قبل الميلاد في برلين، تُقلّ عربة تجرّها أحصنة العائلات الراغبة في مشاهدة معارض الكتب والتصوير المقامة داخل المدينة الأثرية.
ويروي المصور الفوتوغرافي حيدر المسلماوي الذي عرض صوراً له التقطها في العراق وفي دول أخرى في العالم أنه أقام المعرض الخاص به بتمويل ذاتي. ومع ذلك عبّر عن سعادته باستئناف المهرجان “لأنه سينعش الفن والثقافة وحتى الاقتصاد العراقي. وهو واجهة للفن والثقافة العراقية”.
تحدي المصاعب
في الكواليس الواقعة في الحديقة خلف المسرح، كانت فرق فنية أردنية ومصرية وفلسطينية وصربية وأرمنية وروسية وهندية تتدرّب قبل أن تمرّ على المسرح لتقديم عروضها.
وروى مدير الفرقة الأردنية للفنون الشعبية ياسر العردواي أنه سعيد جدا للمشاركة في هذا الحدث، بعدما شارك فيه في العام 2001 مع الفرقة نفسها حينما كان طفلاً.
وقال العردواي وقد اعتمر كوفية أردنية حمراء وبيضاء “يعني لنا كثيراً أن مهرجان بابل عاد بعد 20 سنة. هذا يعني عودة الأمن والأمان للعراق”.
كذلك عاد رئيس فرقة الأهرام المصرية التي تقدم الفلكلور المصري محمد فتحي إلى بابل بعد أكثر من 20 عاماً. وقال بينما كانت فرقته في الخلفية تعزف الإيقاعات الشعبية المصرية وقد ارتدى أفرادها أزياء تراثية صعيدية “كنت هنا راقصاً في الفرقة المصرية في التسعينات. والآن عدت مخرجاً”.
وفي الجانب الآخر من الحديقة كان أعضاء فرقة “كارني” الأرمنية يتدربون بأزيائهم التراثية على عرضهم. وتضافرت مؤسسات أهلية وخاصة لتمويل المهرجان وفق ما قال المدير التنفيذي للمهرجان محمد الربيعي. ولم تكن هذه المشكلة الوحيدة التي تم اجتيازها.
فقد أثار المهرجان جدلا قبل يومين من انطلاقته بعدما رُفع طلب من المحافظ بإلغاء الفقرات الغنائية “استجابة لطلبات ومناشدات طلبة العلوم الدينية والشخصيات الاجتماعية”.

وقال الربيعي “هذا كرنفال فرح يعكس الثقافة العراقية. ونقول للآخر نحن هنا ولدينا وجود”، مضيفاً “طبعاً هناك مخاوف وقلق ولا بد أن نعطي للآخر حسابا، في كل بلد هناك أفكار متعددة وعلينا أن نحترم الرأي الآخر”.
وقال علي صالح البالغ من العمر 36 عاماً والذي جاء من الديوانية على بعد 80 كيلومترا من الحلة لمشاهدة حفل الافتتاح “هذا المهرجان يعكس ثقافة العراق وهو تعبير عن حرية العراقيين، نحن ظلمنا منذ عهد صدام حسين وما بعد عام 2003 بسبب الأحزاب التي دمرت بلادنا وحضارتنا”.
وأضاف “يجب أن نعيد هذا التراث وهذا الجمال إلى العراق. لا نخاف. حريتي أن أغني ولا يمكن لأحد أن يمنع ذلك. ولاية الفقيه لن تحصل في العراق”، في إشارة إلى إيران التي تملك نفوذاً كبيرا في البلاد.
ومن معرض الفنون التشكيلية قال الفنان التشكيلي شبيب المدحتي إن المهرجان “رسالة إلى كل العالم بأن العراق لا يزال لديه فن”. وأضاف “من يرفض فليرفض، هذه وجهة نظره. نحن نواصل عملنا الذي ليس فيه أذية أو ضررا على المجتمع”.
وأشاد فنانون بفعاليات مهرجان بابل الدولي الخامس عشر، وعدّوه جهداً متميزاً وواجهة حقيقية للفن والجمال، فيما طالبوا باستمرار إقامة الفعاليات الفنية والثقافية دون انقطاع وعلى مدار العام.
وقال نقيب الفنانين العراقيين جبار جودي إن “فعاليات المهرجان جرت وفق تنظيم عال بذل فيه القائمون على المهرجان جهدا كبيرا راقيا عكس صورة مشرفة عن الثقافة العراقية وبنية المجتمع العراقي الذي تتجلى أصوله من بابل وآشور وسومر”. وأضاف أن “المهرجان شهد حضورا جماهيريا واسعا قدمت خلاله العروض الفنية والفلكلورية من الفرق المشاركة التي تمثل أكثر من 50 دولة”.
وأكدت نقابة الفنانين فرع بابل في بيان لها أن مهرجان بابل الدولي يمثل رسالة إنسانية للفن والسلام والحب بين الشعوب. وقال رئيس فرع النقابة محسن الجيلاوي إن “نقابة فناني بابل من الداعمين والمشاركين لمهرجان بابل الدولي الخامس عشر بالدعم اللوجستي والفني”، مشيراً إلى أن “الشعب العراقي يحب الحياة والبهجة ولسنا شعب حروب، وبابل توحدنا بكل الطوائف”.
