مها الجهني: الطفرة الروائية علامة على رغبة المجتمع في التغيير

الشاعرة والروائية السعودية تؤكد رفضها تجنيس الأدب، وترى أن الثقافة في هذه المرحلة مطلب أساسي لصنع التغيير الذي يطمح له الوطن.
الثلاثاء 2018/11/13
الحرية طريق نحو التغيير (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

تتّسم تجربة مها الجهني الروائية بالتأني وبالحفر التاريخي، وبالتعمّق النفسي في فضاءات أبطالها المرتكزة بشكل خاص على واقع المرأة السعودية. لهذا فرواياتها تعدّ سجلا كاشفا وشهادة تاريخية تقدّم يوميات المرأة في السعودية. “العرب” كان لها مع الجهني هذا الحوار الذي تناول جزءا من تجربتها وبعض القضايا الخاصة بالمتغيرات الجديدة في المشهد الثقافي والسياسي السعودي.

أصدرت الشاعرة والروائية السعودية مها الجهني مجموعة أعمال سردية وشعرية، كان منها “مدينة بلا ظلال”، “فجر امرأة”، “العباءة” و”كيتوس”. ومن المتوقع خلال الأشهر القليلة القادمة أن تصدر روايتها الأخيرة “مواسم العوسج” ساردة فيها التحديات الإنسانية التي تعيشها النساء عبر التاريخ في المنطقة العربية بشكل عام، والجزيرة العربية بشكل خاص، وذلك من خلال توصيفها لحياة ثلاث شخصيات نسائية. وتنقل عبر السرد التاريخي تفاصيل يومية تعيشها الشخصيات في أزمنة مختلفة منذ العام 1909 وحتى المستقبل القريب عام 2020. مستشرفة أثر التغييرات المفاجئة التي تقع تحتها المرأة والتحديات الاجتماعية والنفسية التي تواجهها.

كما تَعرض الرواية الصراع بين الآلة والإنسان والانفصال الهائل بين الواقع الإنساني والفكري الذي تشعر به الشخصية الحديثة، والصراعات الفكرية والسياسية بين الغرب والشرق، والتي تواجهها البطلة في بيئة الآخر، وبعيدا عن سلطة الرقيب. وتظن الجهني في حديثها مع “العرب” أن روايتها ستلمس التفاصيل الصغيرة التي تجعل منّا -بطريقة أو بأخرى- بشرا أكثر هشاشة، وربما أكثر قوة.

تقنيات الكتابة

تشتغل تقنيات مها الجهني السردية على أكثر من مستوى؛ فحينا تدير عوالمها عبر الحفر التاريخي لفضاء روايتها الجغرافي كما فعلت في رواية “كيتوس”، وحينا آخر تذهب إلى التفكيك النفسي للحياة بصفتها قيامة معاصرة مستعينة بالواقعية السحرية كما فعلت في “العباءة”.

الفن ليس هدفه الأول التغيير في حد ذاته، إنما الفن بأشكاله المختلفة أنتج في المقام الأول ليخلق حالة من  الجمال والدهشة

وترى الجهني أن عملية الكتابة لديها -سواء في روايتها الأخيرة أوفي رواياتها السابقة- ليست رهينة لحظة، لكن الفكرة تأتي أولا، فتملؤها لفترة بالكثير من الأسئلة التي تشاغلها فتندفع باتجاه البحث، حيث تقرأ الكثير من الأبحاث والدراسات التي تسعفها بها المكتبة الورقية والإلكترونية، وتصادق الكثير من الأشخاص الذين تجود بهم الحياة عليها لتسجّل رؤاهم ومشاعرهم وأفكارهم ذهنيا حول الفكرة التي تودّ الكتابة عنها.

وتقول متحدثة عن مناخات اشتغالاتها “تختمر جميع مكونات الدهشة لديّ لزمن، ثم تتحوّل إلى تفاصيل أولى، تفاصيل أساسية، يدفعني صوتي الداخلي وإحساسي العاري بها لأمتطي بياض الورق. وأستعين به لتشكيل مبدئي لقصة  أعمل عليها شهورا، ثم أتركها جانبا. وأعيش الحياة وفي مخيلتي تتصارع الشخصيات والأفكار. تماما، كما حدث في رواية مواسم العوسج شخصية الراوية”.

وتضيف “يشغلني الإنسان بكل هذا الزخم الذي يعيشه، وألتقط من تفاصيل الحياة اليومية ما يعينني على الكتابة. أتأمّل الواقع الذي نعيشه بشكل عام؛ الهموم، الأحلام، الصراعات والرؤى. أستنتج بالملاحظة هذه الهوة السحيقة التي نقع فيها بإنسانيتنا العميقة حد الدهشة، والمفرطة حدّ الألم. تستطيع أن تقول إنني أعيش لكي أكتب عن الشخصيات التي تسكنني، تؤرقني، تشاكسني. تطرقني بشدّة وتمنحني اللهاث لأربط الخيط الرفيع بين الخيال والواقع لأخلق في محاولة الحياة قصة أتصوّرها حيّةً ومركزة. رواية تجعلنا كبشر نحتمل الواقع المترهّل، ونرى في الفن جمالا أو أثرا ما. وقد أستعين في سردي على أحداث تاريخية، أو دراسات نفسية حديثة، وقد أستخدم الميتافيزيقا أو الوقائع المجرّدة والنظريات الفكرية والإنسانية، أو ربما الأساطير والميثولوجيا حسبما تقتضي طقوس الرواية التي أشتغل عليها. وقد أقع في حب شخصياتي، وقد أكرهها. لكني لا أتجرّد من المشاعر وأنا أكتب. بل أعيش بكليتي مع شخصيات أي عمل أكتبه”.

التفكيك النفسي للحياة بصفتها قيامة معاصرة
التفكيك النفسي للحياة بصفتها قيامة معاصرة

المرأة والتحولات

في سؤال عن مدى انشغال تجربتها بواقع المرأة السعودي المعاصر، وهل تظن أن الفعل الثقافي بشكل عام، والروائي بشكل خاص، كان جزءا مؤثرا في التغيير السياسي والاجتماعي في المملكة.

تجيب الكاتبة “الفنّ -برأيي- ليس هدفه التغيير بحدّ ذاته. الفن بأشكاله المختلفة، سواء كان فيلما أو قطعة موسيقية، أو لوحة فنية، أو قصيدة، أو رواية، أنتج في المقام الأوّل ليخلق الجمال والدهشة اللذين ربما يصنعان التغيير ويكشفان ذواتنا. والأدب الذي يهدف إلى التغيير بشكل مباشر سينقصه بالتأكيد الجانب الجمالي الذي يجعل منه فنّا. لكنّ الفن قادر بشفافيته وعمقه على هدم الهش والضعيف بحياتنا. قادر على إعادة تشكيلنا، وملء أرواحنا بالسحر لنسلك طرقا جديدة للحياة ونبني أفكارنا بشكل مغاير وأكثر صلابة”.

وتتابع في الشأن نفسه “في ما يخصّ واقع المرأة السعودية فإنها موجودة منذ روايتي الأولى، وحتى روايتي الأخيرة كشخصية محورية. بل هي الانشغال الأول الذي يرسم مدارات السرد في رواياتي، ويدفعني لاكتشاف نسوية النسق -إن صح التعبير- والتي تبحث في التاريخ والمكان وعلاقتهما بالذاكرة والمعاناة المستمرة التي ترزح تحتها المرأة وإن اختلفت ظروفها. لكني أرفض عملية تجنيس الأدب والذي من شأنه التقليل من الأدب المقدّم من المرأة الكاتبة، وجعله في مرتبة دونية أمام الإبداع الرجالي بشكل عام”.

حين تتحول الثقافة إلى ضرورة حياتية يسعى من أجلها الجميع، ربما تصل إلى صنع تحولات وطنية حقيقية وعميقة

وعن الواقع الثقافي السعودي واستشرافها للمرحلة القادمة في ظل انحسار التيار المتشدد في المملكة، تقول مها الجهني “حين تتحوّل الثقافة إلى ضرورة حياتية يسعى من أجلها الجميع ربما تصل الثقافة إلى صنع تحولات وطنية تقوم بالتغيير على جميع المستويات، ومنها وضع المرأة التي كانت ومازالت أسيرة مجتمع يقصيها ويحصر دورها في المنزل. الثقافة هي معول لهدم المهلهل والمتخلف من النظريات والأفكار. وهي يدٌ تبني الأفكار الجديدة والتغييرات المسؤولة عن تقدّم المجتمع وأنظمته. وحين تقبل الثقافة بتعدد الأصوات واختلافها، وتجعل الحرية حقا للجميع سيشارك المجتمع لا محالة في صنع التغيير الذي يعيد بناء المجتمع وتشكيل إنسانه”.

وتشير الجهني إلى أن “التحولات الوطنية التي تشهدها السعودية الجديدة لامست المرأة لأوّل مرّة في تاريخها، وجعلت مساحة الحلم ممكنة نحو التغيير. حيث لأوّل مرّة توقّف إقصاء المرأة، ووُعِدَت بأن تكون مشاركا حقيقيا وفاعلا في القادم من الأيام”. وتقول “ربما تكون الخطوات بطيئة ومتأخرة لكنها تعد بالأفضل بلا شك. وآمل ألّا يكون التغيير من الخارج فقط، فتغيير الأفكار، وتعليم الإنسان وتثقيفه قبلا هو أساس نجاح التحوّلات الحقيقية، وإلا فإنّها ستكون مخاطرة تلقي بنا في منتصف العاصفة. لذا فالثقافة في هذه المرحلة مطلب أساسي لصنع التغيير الذي يطمح له الوطن”.

وتختتم الجهني الحوار مسلّطة الضوء على واقع المشهد السردي في السعودية، حيث ترى أن الكثرة المفرطة التي تشهدها الساحة الثقافية في مجال السرد الروائي ما هي إلا علامة على رغبة المجتمع في التغيير، واكتشاف ذاته، وخلق تواصل ما مع شرائحه المتعددة، وإيجاد شاهد على المرحلة التي يعيشها. وتقول “إنها ثورة وفوضى في ذات الوقت، ستهدأ وستفرز النقد لاحقا -كما آمل- ليحكم على الصورة، ويعطي لكلّ تجربة مكانها الذي تستحقّه”.

15