من يجرؤ على أن يكون معارضا لشعب العراق؟

هذا هو تاريخ العراق المعاصر إنه تاريخ للجريمة السياسية التي يتحمل وزرها كل الذين مارسوا أعمالا وحشية أو قادوا أشياعهم ليتصرفوا كوحوش لا حاجة لممارسة النفاق بتمجيد شعب لم تكتمل مقوماته الأخلاقية.
السبت 2021/11/27
يجب حلّ الشعب العراقي نفسه لإعادة تركيبه بصياغات جديدة

ما من سياسي أو مثقف في العراق وخارجه، إلا ويشيد بمناقب “الشعب العراقي”. وهي مناقب، لو حفرت لها بئرا أعمق من بئر نفط، فلن تجدها. هناك أفراد من دون أدنى شك يتسمون بسمات، ولكن دعنا لا نخلط بينهم وبين “الشعب العراقي”.

أسارع لأقول إن الحجة في أن هذا الشعب خاض انتفاضات منذ “وثبة كانون” عام 1948، إلى الانتفاضة التشرينية بين عامي 2019 – 2020، لا تكفي للقول إن هناك شعبا يعرف ماذا يفعل بانتفاضاته أو يتقن عواقبها، أو يتصرف من بعد فوزه، أو هزيمته، بكرم أخلاق؟

فإذا قلت إن العيب يطال نخبة الشعب، لا الشعب نفسه، فها أنت تُقرُّ سلفا، أنه شعب خرفان، تدفعه نخبته بعيدا عن القيم اللائقة بشعب مكتمل المقومات.

◄ الشعوب التي تحضرت، إنما تحررت من همجيتها عندما اكتشف كل واحد منها أنه “فرد”، وأن فرديته هي ركن القيم والمقومات الأول، وأنه “مواطن”، وأنه في مواطنيته لا يحرق الأخضر واليابس

الإنجليزي، على سبيل المثال، لا يسمح للشرطة أن تعتدي على جاره. بل ويلاحقها بالمحاكم إذا رأى اعتداء منها على أي مواطن، وكأن القضية تعنيه شخصيا لأنه هو نفسه “مواطن”. لا يوجد شيء اسمه “شعليّا” أو “ما يخصني” أو “أخاف”، لأن من يعتدي على جارك اليوم، يعتدي عليك غدا.

كل شعوب الدنيا التي غادرت عصور الوحشية والظلام، تتصرف على النحو نفسه.

عراقيون هم الذين سحلوا الوصي على العرش عبدالإله في العام 1958، حتى تقطع إربا. وعراقيون هم الذين فعلوا الشيء ذاته برئيس الوزراء نوري السعيد. وفي ذلك اليوم الأسود الذي ما يزال يحتفل به العراقيون على أنه “ثورة الرابع عشر من يوليو المجيدة”، كان بكل المعاني يوم عار وطني، أجدر بأهل الأخلاق الكريمة أن يمحوه من الذاكرة. ففي ذلك اليوم “المجيد” تم إطلاق النار على كل أفراد الأسرة المالكة، بمن فيهم الأطفال، في قصر الرحاب، فسالت الدماء لتلطخ رخام المحاولة الفاشلة لبناء دولة مؤسسات، ولإعداد الهمج لكي يصبحوا “شعبا”.

ولئن دارت على الظالمين الدوائر، فقد تحول هذا القصر بالذات إلى واحد من أشهر مراكز التعذيب في تاريخ العراق. وكأن الأقدار هي التي ردّت بعض “حوبة” النساء والأطفال والملك الشاب فيصل الثاني نفسه.

لا تحتاج أن تكون ملكيا، لكي ترى أن تلك كانت مأساة أخلاقية. يكفي أن تتزن مشاعرك لترى أن ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم كان عملا من أعمال شعب بلا قيم، زادت من همجيته أحزابه “الثورية”، التي لم تعرف في سلوكها السياسي إلا الهمجية والعنتريات الرعناء. صحيح أنها كانت تسطر في أنظمتها الداخلية وكتب التثقيف كلاما على قدر من الانضباط، إلا أن الواقع لم يكن كذلك أبدا. ولو أنك أطلقتها في الشوارع، فإنها سوف تتصرف كالكلاب المسعورة، ضد كل مَنْ لا يتصرف مثلها. وسرعان ما تخبطه بلقب عميل أو خائن مما يبرر لها قتله.

أحزاب الشعب العراقي دائما ما كانت أحزابا من هذا النوع. فلماذا تستغرب أن تكون فصائل “الحشد الشعبي” جماعات سلب ونهب وتعذيب واغتصاب وقتل؟ هذا “الشبل من ذاك الأسد”.

لا حاجة لممارسة النفاق بتمجيد شعب لم تكتمل مقوماته الأخلاقية
لا حاجة لممارسة النفاق بتمجيد شعب لم تكتمل مقوماته الأخلاقية

انظر في ما فعله الشيوعيون العراقيون في أواخر الخمسينات. هل تريد حبالا للسحل لكي تعرف؟ ثم انظر ماذا فعل البعثيون من بعدهم في العام 1963؟ الثورية لم تكن سوى “اسم حركي” للوحشية.

في تلك الأيام كان هناك “ملعب الكشافة”، وكان هو أول ملعب كرة قدم يتحول إلى زنازين للقتل والاغتصاب. عشرات الآلاف من الضحايا مروا من هناك.

وعندما جاءت الثورة “المجيدة” الأخرى من السابع عشر إلى الثلاثين من يوليو عام 1968، فقد حصدت لنفسها قسطها من تلك الأعمال، وأصبح ناظم كزار مدير الأمن العام وأقرانه ومن خَلَفه، من أكبر مبتكري وسائل التعذيب الحديثة. المئات من النساء في مقر الأمن العام تم اغتصابهن أمام أنظار أزواجهن. والمئات من الضحايا وضعت في أعقابهم قناني مشروبات غازية بعد كسر رؤوسها لكي تتمزق بها أحشاؤهم. ولو شاء المرء أن يعدد وسائل التعذيب، وأسماء وصور الضحايا، لسطر مجلدا من الآلاف من الصفحات.

عراقيون، من أبناء هذا الشعب، هم الذين كانوا يقومون بهذه الأعمال. لم يهبطوا من المريخ. لا تعرف كيف كانوا ينامون الليل. ولكنهم كلما عادوا إلى مراكز عملهم كرروا الشيء نفسه.

اللعنة التي تنصب على العراق اليوم، بسلطة وحوش وعصابات، هي جزء من عقاب رباني لهذا الشعب. وهو عقاب يطال الصالح والطالح، لأنه مثل كل الكوارث الطبيعية الجارفة، لا يمكنه التمييز.

نور القيم الإنسانية لم يُشرق في “شعب العراق” حتى الآن. حزبٌ ضد آخر. جارٌ ضد جار. كلابٌ مسعورةٌ تنبحُ على كلاب، ألقابُ سحقٍ تلحقُ ألقابا،.. وهكذا.

هذا هو تاريخ العراق المعاصر. إنه تاريخ للجريمة السياسية التي يتحمل وزرها كل الذين مارسوا أعمالا وحشية أو قادوا أشياعهم ليتصرفوا كوحوش حيال الأخ والجار.

لا حاجة لممارسة النفاق بتمجيد شعب لم تكتمل مقوماته الأخلاقية، لأن الزيف يضاعف المأساة، ويُبقي المنافذَ مفتوحة أمام مستقبل لا سبيل فيه للنجاة.

ولا حاجة لوضع الاستثناءات الفردية كغطاء للعار.

ولئن كان الكلُّ غارقا في هذا الطوفان، فلا سفينة نوح أخرى تنتظر الناجين من البلاء.

يمكن بالنسبة إلى بعض السلطات أن تحلّ أحزابا أو تنظيمات، ولكن هذا لا يكفي في العراق. يجب حلّ الشعب العراقي نفسه، لإعادة تركيبه بصياغات جديدة.

◄ أحزاب الشعب العراقي دائما ما كانت أحزابا من هذا النوع. فلماذا تستغرب أن تكون فصائل “الحشد الشعبي” جماعات سلب ونهب وتعذيب واغتصاب وقتل؟

الانتماءات الحزبية والطائفية والعشائرية والقومية والدينية والمناطقية، يتعين أن يتم حلّها وإبطالها جملة وتفصيلا، دونما استثناء. حتى الألقاب التي تشير إلى تلك الانتماءات يجب أن تُمحى، لأن كلَّ واحد منها يتحملُ شيئا من وزر العار. ولأن كلَّ واحد منها كان سببا أو ذريعة لجريمة ما. ولأن على أكتاف كل “عراقي” جثةَ ضحية ما أو صرخةَ تعذيب أو دمَ اغتصاب.

لا يوجد أبرياء في دار الظلام هذه.

ولن يمكن إعادةُ بناء العراق، ما لم يمكن إعادةُ بناء “شعب العراق”. وإذا كان في بعض أفراده، ممن تطهروا، أي نفع، فإنهم هم النواة.

جدير تماما بهذا “الشعب العراقي” أن يجد من يُعارضه، ليعارض أذيال الخزي التي ظل يجرها من خلف ثوراته “المجيدة” وأحزابه وميليشياته وانتماءاته المجرمة.

الشعوب التي تحضرت، إنما تحررت من همجيتها عندما اكتشف كل واحد منها أنه “فرد”، وأن فرديته هي ركن القيم والمقومات الأول، وأنه “مواطن”، وأنه في مواطنيته لا يحرق الأخضر واليابس، ولا يسحق ولا يمحق، ولا يأخذ جاره بجريرةِ حقد أو رأي أو حزب، وفي العلاقة مع قيم القانون فإنه “لا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى”.

أفهل قلت إن الشعب العراقي يعرف الإسلام؟

هذا الزيف يجب أن يتوقف. كلُّ ضحية قضتْ بوزر ليس وزرَها، تشهد على ذلك.

8