من يبسط ومن يمنع... تهديدات تواجه العولمة الاقتصادية

اضطرت بعض الدول العربية لاتخاذ إجراءات تمكنها من التحكم في الأسواق المحلية مع الارتفاع الجنوني للأسعار في كل أنحاء العالم جراء أزمة أوكرانيا، وأثارت تلك الإجراءات تساؤلات حول العولمة الاقتصادية ومكانة الدول العربية في الساحة الدولية وقدرتها على التأثير في مجريات الأمور بما يخدم اقتصاداتها المحلية ويحميها من أي تداعيات خطيرة.
القاهرة - تواجه العولمة تحديات بالجملة بعد موجة إسراف بعض الدول في وقف تصدير ما تحتكره من سلع أساسية لأسباب اقتصادية أو سياسية، ما يؤثر على دول أخرى تقوم باستيرادها، فقد فتحت الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وتداعياتها العالمية المجال للتساؤل حول تلك الحرب العسكرية التي أدت إلى أنواع مختلفة من العقوبات مقصودة وتلك التي فرضتها دواعي الاحتياجات الداخلية، ووضعت أصحابها في مأزق بين تحقيق الأمن الغذائي وبين الحاجة إلى العملات الأجنبية.
وزادت المخاطر التي تواجهها العولمة التي ذاع صيتها في العقدين الماضيين كثيرا، وتعتمد في أدبياتها الرئيسية على أن الكل في سفينة واحدة ولا توجد دولة تستطيع الوصول إلى مستوى الاكتفاء الذاتي التام في جميع السلع، ما يعني أن التبادل التجاري عنصر مهم في العلاقات الدولية وتفاعلاتها، وأي دولة تحتكر إنتاج سلعة، نفط أو غاز أو قمح أو فواكه أو خضراوات، إذا أغلقت أبوابها قد لا تجد مكانا لترويج بضاعتها، وإن وجدت لا تعلم من أين تأتي احتياجاتها من المواد الأخرى.
وتعد الدول العربية من أكثر الدول التي تستفيد من الانفتاح والعولمة الاقتصادية، ومع ذلك قرر بعضها وقف تصدير إنتاجه من الفواكه والموالح والخضروات لسد احتياجات السوق الداخلية أولا، وهي مسألة لا تندرج ضمن السياسات العقابية لدول أخرى، لكن يمكن أن تضر الدولة أو الدول الممتنعة نفسها، لأنها سوف تواجه نقصا في العملات الصعبة، ناهيك عن احتمال تعرضها لحجب غير مباشر من دول أخرى.
حلقات ممتدة ومتشعبة

مصطفى النجاري: قرار تونس غير مؤثر في سوق تصدير الفاكهة والخضروات
تبدو حلقات العولمة ممتدة ومتشعبة ومتداخلة بصورة كبيرة، بما يجعل التوقف عند الحالة العربية جدير بالتمعن في أبعاده ومكوناته، باعتبارهما من المؤشرات المركزية لما يدور خلف الكواليس في أحد المجالات الحيوية والكاشفة لما يمكن حدوثه في مجالات أخرى ذات أهمية فائقة، فالوضع أن بعض الدول تصيح الآن لإنقاذ نفسها، مع أن حدوث ارتفاع في أسعار القمح أو الطاقة سوف يحدث ارتفاعا ملحوظا على جميع المواد الغذائية، فهي في النهاية حلقات مترابطة يصعب فصلها.
وقررت الحكومة التونسية وقف تصدير الخضراوات والفواكه أخيرا، في خطوة تهدف إلى الحدّ من ارتفاع الأسعار وتلبية احتياجات السوق المحلية، وذلك لفترة لم يتم تحديدها، وبهدف احتواء مشكلة الندرة في الأسواق والحدّ من الغلاء.
وأكد الخبير في الصناعات الغذائية بمصر إبراهيم بشاري أن قرارات منع تصدير السلع الزراعية تؤثر على عولمة الاقتصاد والتبادل التجاري بين الدول، إذا أصبحت ظاهرة تقوم بها أكثر من دولة تنتشر منتجاتها عالميا.
واستبعد في تصريح لـ”العرب” إقدام مصر أو أي دولة عربية أخرى نحو الانجرار وراء الخطوة التونسية، فغالبية الدول العربية لا تعاني أزمة في الفاكهة والخضروات، لكنها تعاني نقصا في الحبوب بأنواعها، ولكل دولة الحرية في منع تصدير سلعة وفقا لحاجة السوق المحلية، وعليها أن تتحمل التبعات الاقتصادية.
وأوضح أن مصر أوقفت تصدير بعض السلع مثل الدقيق والمكرونة، لكن لم يتأثر العالم بهذا القرار لأن إنتاجها محدود فيهما، والتأثير الإقليمي أو العالمي يتحقق إذا قررت دولة متحكمة في سلعة ما منع تصديرها، وهنا يظهر التأثير السلبي على التبادل التجاري والعلاقات التجارية والعولمة الاقتصادية.
ويشكو مواطنو دول عربية عديدة من ارتفاع لافت في أسعار الفواكه والخضروات، زادت حدته مع حلول شهر رمضان الجاري، وبلغت أضعاف سعرها الحقيقي، ويشكو البعض من نقص في بعض المواد الأساسية الاستهلاكية.
ولجأت تونس إلى إجراءات صارمة للسيطرة على الانفلات في أسعار الكثير من السلع، واتهم الرئيس التونسي قيس سعيد المضاربين والمحتكرين بتعميق الأزمة وأصدر مرسوما تضمن عقوبات مشددة، وهو ما سيكون له انعكاس على الأسعار وعلى انسيابية السلع في الأسواق خلال الفترة القادمة.
وتونس أبرز منتج عالمي لزيت الزيتون، لكن التونسيين يشكون ارتفاع أسعاره في السوق المحلية، وبلغت قيمة صادرات تونس من الفواكه الطازجة 134 مليون دينار (44.4 مليون دولار أميركي) في العام الماضي وتذهب أغلب صادراتها إلى ليبيا.
دول عربية في الصدارة
قال رئيس لجنة التصدير والحاصلات الزراعية بجمعية رجال الأعمال المصريين مصطفى النجاري، إن منع السلطات التونسية تصدير الفاكهة والخضروات لا يؤثر سلبا على سوق التصدير العالمي أو العربي، لأنها دولة محدودة الإنتاج الزراعي، ولا تعد من الدول العربية الكبرى المعروفة بتنوع صادراتها الزراعية حول العالم.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن التأثير السلبي الذي يضرب بعض الدول يحدث حال منع تصدير أصناف مؤثرة، ويتحقق إذا كان نابعا من دولة ذات ثقل زراعي كبير، من ثم فقرار تونس يمثل شأنا داخليا يتعلق بارتفاع الأسعار فيها بدرجة كبيرة.
وتلعب الزراعة دورا مهما في الاقتصاد ويمثل ترتيب الدول العربية من حيث الإنتاج الزراعي حوالي 4 في المئة من الإنتاج العالمي.
وحسب إحصائيات البنك الدولي، توظف الزراعة 33 في المئة من حجم العمالة الموجودة في العالم، وتمثل الزراعة في الدول الأفريقية نحو ثلث الناتج المحلي.
وتأتي مصر في صدارة الدول العربية المنتجة للخضروات والفاكهة، ويقدر إجمالي ما تسهم به الزراعة في دعم الموازنة العامة للدولة نحو 28 مليار دولار، وهو ما يجعلها لا تفرط في هذه الورقة التي تسد جانبا من احتياجاتها من العملات الأجنبية، خاصة بعد أن حققت بعض أنواع الفواكه، والموالح بشكل خاص، نجاحا ملحوظا.

إبراهيم بشاري: تفشي الظاهرة يؤثر سلبا على التبادل التجاري العالمي
وسجلت صادرات الحاصلات الزراعية المصرية 777.6 ألف طن، بقيمة 617 مليونا و664 ألف دولار في الربع الأول من الموسم التصديري الحالي 2022/2021، فيما يبلغ إجمالي الصادرات الزراعية للبلاد نحو 3 مليارات دولار.
وتحتل الجزائر المرتبة الثانية كأكبر منتج للخضروات والفاكهة عربيا ويبلغ إجمالي الدخل القومي من الزراعة أكثر من 22 مليار دولار سنويا، وبلغت صادراتها العام الماضي نحو 1.2 مليار دولار.
وفي المرتبة الثالثة السعودية، ويبلغ العائد الزراعي أكثر من 15 مليار دولار، وارتفع إنتاج الفواكه بنسبة 194 في المئة في السنوات الست الأخيرة، مسجلة 2.7 مليون طن، واحتلت التمور صدارة قائمة تلك المنتجات.
وجاءت الرياض في المركز الثاني عالميا في إنتاج التمور بـ1.5 مليون طن عام 2020، ووصلت صادراتها إلى 107 دول، ونمت الصادرات بنسبة 7.1 في المئة بقيمة 927 مليون ريال (247 مليون دولار).
ويحتل المغرب المرتبة الرابعة عربيا، حيث يبلغ العائد من الزراعة حوالي 14 مليار دولار سنويا، ووفقا لوزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، حققت صادرات الفلاحة المغربية عائدات مالية بقيمة 17.5 مليار درهم (1.75 مليار دولار)، نتيجة الجهود المبذولة والنجاح في زراعة محاصيل ذات قيمة مضافة عالية.
ويأتي السودان في المرتبة الخامسة، ويقدر الدخل القومي من وراء الزراعة بأكثر من 12 مليار دولار سنويا، وتراهن الخرطوم على الحبوب في صادرات الحاصلات الزراعية التي تتراوح بين 1.5 إلى 2 مليار دولار، وهي أرقام لا تتماشى مع المقومات الزراعية الكبيرة التي يمتلكها السودان ولا تتوافر في أي بلد عربي آخر.
حظوظ الإنتاج والتصدير

رغم محاولات توجيه كميات من الخضر والفواكه المنتجة محليا إلى أسواق إقليمية ودولية، إلا أن معادلة تحقيق الاكتفاء الذاتي في المقام الأول تبقى أبرز عائق أمام تصدير مثل تلك المواد من الجزائر إلى الخارج، لأن السوق غير مضبوطة ومرتبطة إلى حد بعيد بمزاج الإنتاج حين يرتفع موسميا وليس بسلسلة إنتاج ثابتة، كما أنها معرضة للتجاذبات القوية التي يعيشها الاقتصاد العالمي بسبب أزمة أوكرانيا.
وجاءت جائحة كورونا ثم الأزمة الاقتصادية المتصلة بالوضع في أوكرانيا، لتحد من إمكانية تصدير كميات من الخضر والفواكه الجزائرية للخارج في ظل مخاوف من الحفاظ على تموين السوق الداخلية وتلبية الحاجيات المحلية، كما هو الشأن بالنسبة إلى التمور التي اعتبرتها الحكومة في فترة سابقة مخزونا ممنوعا من التصدير تحسبا لاستعماله كغذاء حال وجود طارئ تمويني للسوق الداخلية في المواد الأساسية.
وكان مدير حماية النباتات والرقابة التقنية بوزارة الفلاحة رابح فيلالي، قد كشف أن بلاده صدرت 50 ألف طن من المنتجات الفلاحية خلال الثلاثي الأول من السنة المنقضية، بينما تجاوزت صادرات القطاع خلال السنة التي سبقتها حدود الـ100 ألف طن من الخضروات والفواكه رغم جائحة كورونا.
المواطنون في دول عربية عديدة يشكون من الارتفاع اللافت في أسعار الفواكه والخضروات، الذي زادت حدته مع حلول شهر رمضان
غير أن العديد من العوامل تدفع باتجاه تسجيل الجزائر لإحصائيات أقل في مجال تصدير الخضر والفواكه، فإلى جانب العوامل المناخية وموجة الجفاف فضلا عن الحرائق التي عاشتها الصيف الماضي وأتلفت مساحات واسعة من أشجار الفواكه، مثل التفاح في محافظة خنشلة، ثم جاءت الأزمة الأوكرانية والاضطرابات التي تشهدها الأسواق الدولية لتقلل من حظوظ إنتاج وتصدير الخضر والفواكه.
ولفت المسؤول في وزارة الزراعة رابح فيلالي إلى أن “خارطة الطريق المعتمدة من قبل وزارة الفلاحة 2020 -2024 تقوم على ضمان وفرة الإنتاج بمقاييس الجودة المعمول بها دوليا لضمان الرواج الخارجي للمنتوج الوطني، ما يتطلب تقنين هذه العملية من خلال المسارعة إلى إعداد نموذج للعقود التي يتعين إبرامها مستقبلا بين الفلاحين والمتعاملين في قطاع التصدير بهدف بلوغ المهنية في هذا المجال”.
من جهة أخرى، يعتزم المغرب تطوير قطاع الصناعات الغذائية لضمان الأمن الغذائي للمملكة والمساهمة في خلق فرص الشغل عبر إحداث منظومة متكاملة تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، لاسيما الغذائية والصحية والطاقية، والعمل على التحيين المستمر للحاجيات الوطنية، تعزيزا للأمن الغذائي الاستراتيجي.
ونظرا لمكانة قطاع الصناعات الغذائية في الصناعة الوطنية من زاوية تنوع أنشطته ومساهمته في تأمين المخزون الغذائي، أكد وزير الصناعة والتجارة المغربي رياض مزور بتوفر 900 مشروع في إطار سياسة استبدال الواردات بالاستثمارات.
معادلة تحقيق الاكتفاء الذاتي تبقى أبرز عائق أمام تصدير الخضر والفواكه من الجزائر إلى الخارج
ويعتبر قطاع الصناعات الغذائية الأكثر توفيرا لمناصب الشغل في المغرب، ما يجعل هذا القطاع ذا بعد استراتيجي بالنسبة إلى الاقتصاد، ويوجد في صلب اهتمام كل من وزارتي الزراعة والصناعة.
وتندرج الاستثمارات الخاصة بالصناعات الغذائية ضمن الأولويات لتعويض الواردات بمنتوجات محلية تستجيب لاحتياجات السوق الوطنية من حيث منتوجات الصناعات الغذائية، على وجه الخصوص الأجبان ومُرَكَّز عصير الحوامض، ومُرَكَّز الطماطم، ومنتجات البسكويت والشوكولاطة.
وأشار رئيس الفيدرالية الوطنية للصناعات الغذائية في المغرب عبدالمنعم لعلج إلى أن قطاع الصناعات الغذائية في المملكة يلعب دورا اجتماعيا واقتصاديا مهما من خلال مساهمته في ضمان الأمن الغذائي.
وارتباطا بخلق منظومة صناعية لتأمين المخزون من الغذاء، أكد وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات بالمغرب محمد صديقي أن الحكومة تعكف على وضع تصور لمنظومة وطنية متكاملة للمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية واتخاذ التدابير عملية لضمان سيادة غذائية في ما يخص هذه المنتجات.