من قتل شكري بلعيد: مطلب شعبي تونسي تغتاله معارك السياسة

يتجمّع في كل يوم 6 فبراير، منذ عام 2013، تاريخ اغتيال المعارض اليساري التونسي شكري بلعيد، أنصار الجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية وقومية) التي كان بلعيد من مؤسسيها أمام منزله لتخليد ذكراه وللمطالبة بوجوب كشف ملابسات الاغتيال والضغط على الطبقة السياسية الحاكمة من أجل الكشف عن حقيقة الاغتيالات السياسية التي عرفتها تونس بين عامي 2011 و2013.
تونس - بمناسبة إحياء الذكرى السادسة لاغتيال المعارض التونسي شكري بلعيد، تجمّع الأربعاء وككل عام عدد من السياسيين المنتمين إلى أحزب الجبهة الشعبية أو إلى أحزاب مدنية أخرى وقيادات منتمية إلى الاتحاد العام التونسي للشغل أمام منزل بلعيد أين تم اغتياله يوم 6 فبراير 2013، لإحياء ذكراه ولفرض المزيد من الضغوط على القضاء وعلى الطبقة السياسية الحاكمة للكشف عن حقيقة الاغتيالات السياسية التي عرفتها تونس خلال حكم الترويكا (2013-2011).
منذ ست سنوات، ظل ملف اغتيال شكري بلعيد محلّ تجاذبات سياسية بين الأحزاب اليسارية وحركة النهضة الإسلامية، لتتحوّل القضية من مسارها القضائي إلى مسار سياسي صرف محكوم بالعديد من المتغيرات التي طرأت على الساحة السياسية خاصة بعد انتخابات عام 2014.
من دبّر للعملية
منذ حادثة الاغتيال، التي هزّت الرأي العام التونسي، خاصة بعد الاغتيال الثاني الذي طال المعارض السياسي محمّد البراهمي في 25 يوليو 2013، ظل السؤال المركزي يتردد: من قتل بلعيد؟ ومن دبّر للعملية؟ ليتحوّل في ما بعد هذا الاستفسار إلى مصدر حرب وتجاذبات بين الفاعلين السياسيين في البلاد، خاصة بين الجبهة الشعبية وحركة النهضة من جهة وبين الجبهة الشعبية والأحزاب التي حكمت تونس عقب انتخابات 2014 من جهة ثانية.
ويقر جل المتابعين عن كثب لمسار التحقيق في قضية شكري بلعيد بأن مسارها تحوّل من قضائي إلى سياسي صرف توظفه كل الأحزاب بلا استثناء وفق أهوائها ورغباتها السياسية أو الانتخابية. ويأتي تحويل القضية خاصة بعدما عرفت العلاقة بين هيئة الدفاع عن بلعيد والجبهة الشعبية، بصفتيهما صاحبتي الدعوى بالهياكل القضائية، إلى علاقة قطيعة شبه تامة في ظل تمسّك مكونات الجبهة باتهام القضاء بمحاولة طمس الحقيقة وبالولاء لحركة النهضة المتهم الرئيسي من طرف هيئة الدفاع بالتدبير لاغتيال شكري بلعيد.
وفي تطور جديد حملت آخر حيثيات القضية اتهاما مباشرا من قبل الناطق الرسمي للجبهة الشعبية حمة الهمامي لا فقط لحركة النهضة بل أيضا للحكومة التونسية بالتستر على الشريك في الائتلاف الحاكم في ما يخص ملف الاغتيالات، بقوله “نطالب باستقالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي يتستر على قضية الجهاز السري لحركة النهضة”. وأضاف على هامش ندوة صحافية عشية الذكرى السادسة لاغتيال شكري بلعيد أن “ما يسمى بحزب الحكومة سيستعمل للتستر على التنظيمات السرية والاغتيالات السياسية”.
تأتي الاتهامات الجديدة التي طالت الحكومة التونسية عقب كشف هيئة الدفاع عن المعارضين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي عما أسمته بملف الجهاز السري المرتبط بحركة النهضة وما تردد عن ضلوعه في عمليات التحريض على اغتيال المعارضين السياسيين.
وبعد سنوات متتالية ظل خلالها ملف الاغتيالات السياسية يراوح مكانه، تمثل المعطيات التي كشفت عنها هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمّد البراهمي والمتعلقة أساسا بملف الجهاز السري لحركة النهضة، منعرجا هاما لكشف غموض القضيتين اللتين أصبحتا ورقة بيد الأحزاب السياسية تلعبها في مختلف الاستحقاقات الانتخابية لكسب الأصوات وضرب الخصوم السياسيين.
في المقابل، يقر جل المتابعين لهذا الملف بأن المتغيرات السياسية التي عقبت انتخابات 2014 ساهمت في إضفاء نوع من الضبابية على سير التحقيق فيه بعدما تمكّنت حركة النهضة، المتهم الأول في قضايا الاغتيالات، من التأقلم مع ما أنتجته منظومة الحكم المتمخضة عن انتخابات 2014 أو من مسايرة بقية المتغيرات السياسية الأخرى داخليا وإقليميا.
هنا، يقول النائب بالبرلمان والقيادي بالجبهة الشعبية مراد الحمايدي، إن تقدّم الملف والكشف عن ارتباط جريمة اغتيال شكري بلعيد بأي طرف سياسي “غير ممكن، في ظل غياب إرادة سياسية من أجل تحقيق ذلك، خاصة بعد التحالفات الجديدة بين رئيس الحكومة وحركة النهضة وتأثيرها على مواقف الحكومة بخصوص العديد من الملفات وفي مقدمتها ملف الاغتيالات السياسية وارتباطه بحركة النهضة”.
وأعادت التطورات الأخيرة في علاقة بملفات الاغتيالات السياسية تلك المعركة الأيديولوجية بين الأحزاب اليسارية والمدنية من جهة وبين الأحزاب الإسلامية وفي مقدمتها حركة النهضة، حيث أعلن ثلّة من المحامين الثلاثاء عن تأسيس مجموعة “محامون ضد التمكين” التي ستتولّى “القيام بجميع إجراءات التقاضي ضد مشروع التمكين الإخواني داخل تونس”.
وأكد المحامون في بيان أن هذا الإعلان جاء بعد “سعي حركة النهضة إلى اختراق أجهزة الدولة والسيطرة على جميع مفاصلها” و”فرض استراتيجيات التمكين”. وأشاروا إلى أن “حركة النهضة عمدت إلى بناء شبكة من الجمعيات المدنية والخيرية المرتبطة بها مباشرة أو القريبة منها تكفلت بتلقي التمويلات الخارجيّة لتنفيذ المهام المساعدة على تكريس سياسة التمكين”.
عدم اقتناع برواية الدولة
من العوامل التي ساهمت في تحويل مسار قضية اغتيال شكري بلعيد إلى سياسية بامتياز عدم اقتناع قيادات الجبهة الشعبية بالرواية الرسمية التي قدّمتها أجهزة القضاء والتي أقرّت بأن منفذ الجريمة هو كمال القضقاضي الذي تم القضاء عليه في 5 فبراير 2014.
ومما أسهم أيضا في بقاء القضية رهينة تجاذبات سياسية أن العديد من الفاعلين السياسيين المتبنين لقضية شكري بلعيد يعتقدون جازمين أن الاغتيالات السياسية التي طالت بلعيد والبراهمي لم تكن قضايا معزولة بل كانت مدبّرة من قبل جهات سياسية إسلامية استهدفت خلال فترة حكم الترويكا العديد من السياسيين والصحافيين والنقابيين.
في المقابل، تتمسك حركة النهضة في كل مرة بنفي الاتهامات الموجهة إليها لكن دون اللجوء إلى القضاء لتبرئة نفسها، مقتصرة في جل تدخلات قياداتها على القول إن العديد من الأحزاب السياسية توظّف ملف الاغتيالات في معركة سياسية أيديولوجية هدفها عزل حركة النهضة دون تقديم دلائل على الاتهامات.
وطيلة ست سنوات ظل ملف اغتيال شكري بلعيد من بين أهم الورقات السياسية الهامة التي ساهمت في صعود الأحزاب المدنية في انتخابات عام 2014، حيث مكّن اعتصام الرحيل خاصة عقب اغتيال المعارض السياسي محمد البراهمي في 25 يوليو 2013 من إسقاط حكومات حركة النهضة وتشكيل حكومة وحدة وطنية قادها آنذاك رئيس الحكومة السابق المهدي جمعة.
ويعتبر مراقبون أن هذه الورقة الانتخابية الهامة مكّنت رئيس حزب نداء تونس الرئيس الباجي قائد السبسي من الفوز في الانتخابات وكذلك ضمنت للجبهة الشعبية الحصول على 15 مقعدا في البرلمان التونسي. ومع اقتراب الانتخابات المزمع إجراؤها في موفى عام 2019 تحذّر عائلة شكري بلعيد من استثمار الملف في معارك انتخابية عابرة دون التعمق في ملف القضية والكشف عن الحقيقة كاملة.
وقال عبدالمجيد بلعيد شقيق شكري بلعيد إنه حان الوقت لإخراج ملف الاغتيالات السياسية من دائرة الحسابات الانتخابية الضيقة لأن ذلك سيجعل ملف هذه القضايا رهين حسابات سياسية ستزيد في طمس الحقيقة.
ودعا في تصريح لـ“العرب” الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إلى الكشف عن كل الكواليس التي يعرفها وكل المعطيات المتوفرة لديه بخصوص الجهاز السري لحركة النهضة لكن دون استغلال ذلك في حملات انتخابية سابقة لأوانها.
وذكّر بلعيد أن كلا من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يوسف الشاهد وعدا في عدة مرات بالسعي إلى كشف الحقيقة إلا أنهما أخلاّ بوعودهما بفضل تمكّن حركة النهضة من استغلال الحروب الدائرة بين قصري قرطاج (القصر الرئاسي) والقصبة (قصر الحكومة) بحسب قوله.
طبقا لكل المتغيرات السياسية الحاصلة في تونس بعد انتخابات عام 2014، وبغض النظر عن ثبوت صحة الاتهامات الموجهة لحركة النهضة، فإن جل المتابعين لملف الاغتيالات يجمعون على أنها تمكّنت عبر حسن استغلالها لتشتت الأحزاب المدنية والتقدّمية من التخفيف في حدّة الاتهامات، متوسلة قدرتها على مسايرة الأوضاع وحسن اختيارها للتموقع والتحالفات السياسية التي تمكّنها من مواصلة الحكم لتجنّب حشرها قضائيا في العديد من الملفات المتهمة بها منذ عام 2011 وفي مقدمتها ملف اغتيال شكري بلعيد.