من دون تنازلات سياسية لا قاع للأزمة الاقتصادية في لبنان

تكشف أغلب المعطيات على أرض الواقع أن الأزمة اللبنانية لن يكون لها حد ما لم يتنازل القادة السياسيون عن شروطهم ومصالحهم الضيقة ويتحدوا من أجل إنقاذ بلدهم، وفي حال لم يقتنعوا بذلك فإن الأزمات القادمة ومن بينها احتمالات الكوارث الطبيعية قادرة على توحيدهم مكرهين.
بيروت - لا تزال الفصائل السياسية اللبنانية غارقة في خلافات داخلية، مما يقلل من احتمال مرور إصلاحات قد تحسن وضع البلاد الاقتصادي، وهو أمر ليس مفاجئا.
وتولى وسيم منصوري النائب الأول لحاكم البنك المركزي اللبناني مهام القائم المؤقت بأعمال الحاكم في 31 يوليو بعد أن فشل مجلس النواب في تعيين خليفة رسمي لرياض سلامة الذي ترك منصبه بعد 30 عاما.
وليس هذا التردد السياسي جديدا، حيث لم يتمكن المشرعون اللبنانيون من انتخاب رئيس في 12 جلسة عقدت لهذا الغرض منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر 2022. ولا يمكن لذلك التوقيع على التشريع الذي أقره مجلس النواب، ولا يمكن المصادقة على ولاية حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي. ويحد دور تصريف الأعمال هذا من سلطات ميقاتي، مما يترك البلاد دون قيادة قوية. وتبقى هذه العيوب المؤسسية نتيجة لمجلس النواب اللبناني المجزأ، حيث قوّضت الانقسامات بين الأحزاب الإصلاحية المنشأة حديثا والأحزاب المؤسسة القديمة والأحزاب الموالية لإيران سبل التوصل إلى توافق.
ويشدد تقرير لمركز ستراتفور للدراسات الأمنية والإستراتيجية على أن نظام المحاصصة الطائفي يبقى من العقبات الرئيسية أمام الوحدة السياسية في لبنان، حيث يتطلب أن تتولى طوائف مختلفة مناصب رئيسية محددة. فيجب على سبيل المثال أن يكون الرئيس مارونيا، ورئيس الوزراء سنيا، ورئيس مجلس النواب شيعيا.
افتقار لبنان إلى الإصلاح سيؤدي إلى جعل نقص الغذاء والوقود شديدا إلى درجة قد تتحول فيها الاضطرابات المستمرة إلى حرب أهلية
وتضم كل طائفة أحزابا لها تحالفات إقليمية وأيديولوجية متباينة. وتبقى بعض الأطراف متحالفة مع فرنسا والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، والأخرى متحالفة مع إيران وسوريا. وتوجد بعض الأحزاب الجديدة المؤيدة للإصلاح دون ميول خارجية، وتفضل بدلا من ذلك القومية اللبنانية المستقلة.
وتسبب المأزق السياسي في لبنان بحدوث واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية في العصر الحديث. وعلقت المساعدات الدولية التي يمكن أن تخفف من هذه الحالة الطارئة بعد مطالب بإجراء إصلاحات هيكلية. وفقدت الليرة اللبنانية 98 في المئة من قيمتها مقابل الدولار منذ اندلاع الأزمة في 2019، وانكمش الاقتصاد بنسبة 40 في المئة، مما ترك معظم السكان عاجزين عن شراء السلع الأساسية والأدوية والخدمات.
وعرض المانحون الدوليون المساعدة للتخفيف من هذه الأزمة، لكن معظم هذه الأموال تبقى مرهونة بالإصلاحات الاقتصادية والقانونية والسياسية والمؤسسية. ويستمر تدهور الاقتصاد اللبناني في غياب هذه المساعدات.
ويكافح لبنان أكثر فأكثر لتحمل تكاليف واردات الغذاء والطاقة والأدوية منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في 2019، لكن البلاد تضررت بشكل خاص من الصدمات الغذائية التي اندلعت بسبب غزو أوكرانيا في فبراير 2022. وكانت أوكرانيا قد وفرت أكثر من 50 في المئة من واردات لبنان من القمح سنة 2021.
ورغم عمق الأزمة الاقتصادية اللبنانية، قاومت النخب السياسية في البلاد تنفيذ الإصلاحات من أجل الحفاظ على سلطتها. وترى الفصائل السياسية اللبنانية أن الأزمة الاقتصادية ستجبر منافسيها في النهاية على تقديم تنازلات في ما يتعلق بالتعيينات الوزارية أو التغييرات التشريعية التي تحميهم من آثار الإصلاحات المحتملة. لكن لا يبدو أن الاقتصاد المنهار قد أثر على ممتلكات معظم النخب أو أنماط حياتهم، خاصة وأن الرعاة الخارجيين مثل إيران والولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة يقدمون مساعدات إنسانية وأمنية طارئة لفصائلهم المفضلة.
تقرير لمركز ستراتفور للدراسات الأمنية والإستراتيجية يشدد على أن نظام المحاصصة الطائفي يبقى من العقبات الرئيسية أمام الوحدة السياسية في لبنان
ولا يرجح تقرير مركز ستراتفور أن تدفع الضغوط المالية أي فصيل إلى التنازل. كما يعارض بعض قادة الأحزاب الإصلاحات بسبب مخاوف بشأن المساءلة، خاصة إذا كانت الإصلاحات تكشف الفساد للمحاكم اللبنانية والدولية.
ولا تزال الأحزاب الأخرى، خاصة تلك المؤيدة لإيران مثل حزب الله، تعارض الإصلاحات لأنها، على عكس منافسيها، لن تكون قادرة على جني الفوائد الاقتصادية اللاحقة بسبب العقوبات الغربية. ومن غير المرجح أن يمرر البرلمان ميزانية، أو يعلن عن تعيينات رسمية إلى أن تصبح الفصائل السياسية اللبنانية مستعدة لتقديم تنازلات.
من ناحية أخرى، أبقت الولايات المتحدة على العقوبات على قادة حزب الله منذ التسعينات، ثم شددتها بعد الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني في 2018. وتجعل هذه العقوبات حزب الله والمصارف المرتبطة به تعتمد أكثر على إيران وسوريا للحصول على الدعم المالي، وهو أمر لا يعتمد على الإصلاحات.
وقدّمت الولايات المتحدة في يناير، من خلال الأمم المتحدة، 72 مليون دولار من المدفوعات النقدية المباشرة للجيش اللبناني لتعويض أثر التضخم على رواتب الجنود ومنع تآكل تماسك الجيش. وأعلن الاتحاد الأوروبي في مارس عن 60 مليون يورو أخرى (66 مليون دولار) لدعم اللاجئين والمستضعفين في لبنان. وفي نفس الوقت، تقدم إيران الوقود والدعم النقدي المباشر لحلفائها عبر ممر بري يشقّ العراق وسوريا.
وقد يؤدي افتقار لبنان إلى الإصلاح بمرور الوقت إلى جعل نقص الغذاء والوقود شديدا إلى درجة قد تتحول فيها الاضطرابات المستمرة على مستوى البلاد إلى حرب أهلية. وإذا تواصلت الأزمات الاقتصادية والمؤسسية في لبنان، فستستمر في خفض قيمة العملة اللبنانية، مما سيؤدي على الأرجح إلى نقص مستدام في الغذاء والوقود حيث تصبح الواردات باهظة الكلفة أكثر.
ويمكن أن تساهم الأحداث الخارجية مثل انتهاء صفقة الحبوب في البحر الأسود وظاهرة النينو والجفاف العالمي وتغير المناخ في نقص الغذاء، وقد يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة خلال الصيف إلى تفاقم نقصها في لبنان. وإذا استمرت هذه الظروف لأشهر أو سنوات، فمن المرجح أن تندلع احتجاجات جماهيرية ضد الحكومة والفصائل الطائفية. ويمكن أن تتصاعد هذه الاحتجاجات إلى تحدٍ أمني يعيد إشعال الحرب الأهلية في لبنان التي انتهت في 1990. ويمكن أن يقنع احتمال اندلاع حرب أهلية الأحزاب السياسية اللبنانية بالتعاون، ولكن لن يضمن أي تحالف إصلاحات هيكلية تخفف من الضغط الاقتصادي.

ووردت تقارير منذ بداية الأزمة اللبنانية عن أعمال عنف متفرقة نجمت عن نقص الوقود في محطات التزويد، وأصبحت البنوك أهدافا منتظمة للأفراد العنيفين الذين يحاولون استرداد ودائعهم رغم الضوابط غير الرسمية على الأموال.
وتجنب لبنان إلى حد كبير الاضطرابات الجماعية المستمرة بسبب انتشار الخوف من العنف وتراجع حدّة أسوأ صدمات الغذاء والوقود بمرور الوقت. كما ساهمت المساعدات الإنسانية الطارئة الجديدة والتحويلات المالية من اللبنانيين الذين يعيشون ويعملون في الخارج في التخفيف من أشد آثار هذا النقص. بينما من المنتظر أن يستمر تدهور الاقتصاد والمؤسسات اللبنانية التدريجي، وتعدد الأحداث منخفضة الاحتمال وعالية الخطورة التي يمكن أن تكسر الجمود السياسي.
وتعدّ البيئة السياسية في لبنان مجزأة ومعقدة إلى درجة أنه من المحتمل أن يتطلب إقناع الجماعات السياسية المختلفة بالتعاون صدمة أمنية أو اقتصادية كبيرة. ويمكن أن تكون هذه الصدمة الحرب مع إسرائيل، إذ لا تزال علاقة لبنان الأمنية مع إسرائيل مشحونة، رغم بعض التحسينات مثل صفقة ترسيم الحدود البحرية في 2022.
وتصاعدت التوترات بشكل خاص منذ أن اعتمدت الفصائل الفلسطينية مثل حماس الأراضي اللبنانية قاعدة أمكن من خلالها استهداف الحدود الشمالية الإسرائيلية. وإذا نفذت إسرائيل عملية أخرى واسعة النطاق في لبنان لمحاربة هذه الفصائل، فقد تسبب أضرارا اقتصادية وإنسانية كافية لتحفيز بعض الأحزاب داخل مجلس النواب اللبناني على تقديم تنازلات لتحرير مساعدات إعادة الإعمار.
كما أن التغييرات السياسية أو الطوارئ العسكرية بين واحد أو أكثر من رعاة لبنان قد تؤدي إلى تعطيل المساعدات الدولية الأجنبية للفصائل المختلفة داخل البلاد. فعلى سبيل المثال، ستجري الولايات المتحدة انتخابات رئاسية في 2024، وإذا فاز المرشح الجمهوري المفترض دونالد ترامب فإن شكوكه في برامج المساعدة المفتوحة قد تغير سياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان. كما من شأن التصعيد العسكري الإقليمي الذي لا يزال مستبعدا ضد طهران بسبب برنامجها النووي أن يعرض المساعدة الإيرانية للأحزاب اللبنانية المفضلة للخطر. وفي مثل هذه الحالات، يجعل النقص الجديد في السيولة السياسيين اللبنانيين أكثر استعدادا للتوصل إلى حل وسط للحصول على المساعدة وإطلاق عملية إنقاذ صندوق النقد الدولي.
وهناك كارثة طبيعية كبرى أخرى يواجهها لبنان، فهو يقع بالقرب من خطوط صدع زلزالية قد تؤدي إلى كارثة مروّعة شبيهة بزلزال فبراير الذي ضرب سوريا وتركيا وألحق أضرارا بأجزاء من لبنان. وقد يجبر زلزال كبير يؤثر على لبنان مباشرة النخب السياسية على تقديم تنازلات لتأمين المساعدات الخارجية والتركيز على جهود إعادة الإعمار.