من تونس إلى الكويت.. عودة إلى الجذور الفكرية للتطرف

العمليات الإرهابية التي تم تنفيذها الجمعة الماضي، بشكل متزامن في أقطار عديدة، وبصرف النظر عن تداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية العميقة، فإنها تكشف أيضا التحولات العارمة التي عرفها الفكر التكفيري الناشئ من رحم السلفية الجهادية، بأن غيّر تصنيفه للأقطار الإسلامية من أرض دعوة إلى أرض جهاد، وأصبح يستهدف الدولة التي يعيش بين ظهرانيها.
الاثنين 2015/06/29
الإرهاب المتدثر بالدين غير أهدافه من استهداف الدولة إلى استهداف المدنيين

لا يمكن قراءة المجازر التي حصلت في تونس والكويت، الجمعة الماضي ونحن في شهر رمضان، إلا بوصفها تتويجا لمسار الفكر التكفيري الذي ترعرع في أحضان السلفية الجهادية المتطرفة، والذي نما تدريجيا وطور نظرية القتل على مراحل؛ فانتقل من الوصاية على النص، إلى الوصاية على أرواح المسلمين، فالوصاية على أقدس الأزمنة في ديانة المسلمين، كيوم الجمعة وشهر رمضان، وصولا إلى الوصاية على أمكنة العبادة التي لا يباح فيها سوى ذكر الله، وهي المساجد، حيث صار مباحا أن يكون صوت الرصاص أقوى من صوت الذكر.

تعكس تلك المجازر الانفلات الخبيث الذي حصل في الفكر التكفيري خلال العقدين الماضيين، بوجه خاص، فهي، بالتالي، تطور في مساره لا نتوء خارج عنه.

فحتى بداية التسعينات من القرن الفائت، لم يكن القتل بالجملة قد دخل منظومة الفكر التكفيري، وقد طوّر هذا الفكر تلك العملية في سياق صراعه الدموي مع الدولة، ولكي يغطي عجزه عن مواجهتها كان عليه أن يقفز من تكفيرها إلى تكفير المجتمع والناس، وقد كانت تلك وسيلة فقهية في الالتفات على النص، لكنها كانت ترجمة للهدف العسكري بهدف الالتفاف على الدولة من خلال النص. كيف ذلك؟

ينطلق الفكر التكفيري، أساسا، من هدف سياسي يسعى للوصول إليه، وهو السيطرة على الدولة وإضعافها وإزاحتها للحلول محلها، ولتحقيق هذا الهدف تم منحه مشروعية دينية من خلال الاتكاء على نظرية جاهزة في تكفير الدولة، تعتمد التأويل لموروث من زمن القبيلة، من خلال تحديثه على مستوى الخطاب الشرعي. وها هنا لفتة ـ كما يقول الفقهاء ـ وهي أن الفكر التكفيري لا يؤمن بنظرية الدولة من الأصل، لكنه يحدد هدفه في إسقاطها، ومن ثمة يصوغ نظرية فيها، وهذا باب من الكلام سوف نعود إليه في مناسبة قادمة.

الفكر التكفيري انتقل من الوصاية على النص إلى الوصاية على أرواح المسلمين، فالوصاية على أقدس الأزمنة في الإسلام

بيْد أن تكفير الدولة لم يُمكّن الفكر التكفيري من تحقيق طموحاته، بالنظر إلى تباين موازين القوى بين الطرفين من جانب، وللفجوة بين المسلمين وذاك الفكر التكفيري من جانب آخر؛ فقد رأى المتطرفون أن عامة المسلمين تفترق عن الفكر التكفيري، واعتبروا أنها، بالتالي، تعد حاضنة للدولة، أي مناط مشروعيتها، ولذلك انتقل هؤلاء من تكفير الدولة إلى تكفير المسلمين، تحقيقا لهدفين: الأول إفراغ الدولة من مشروعية الانتماء إليها، ووضع المسلمين في برزخ لاختيار معسكرهم؛ والثاني الالتفات على الدولة عسكريا وأمنيا، عبر الضغط عليها من خلال استهداف المسلمين، أملا في إضعافها وتحويل ولاء المسلمين إليهم، بعد التمكن من إحداث شرخ بين الدولة ورعيتها.

تم تجريب هذه الوصفة – لأول مرة – في الجزائر في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي؛ فبعد اندلاع الحرب بين الجماعات المتطرفة – ممثلة آنذاك في “الجماعة الإسلامية المسلحة” – وجدت هذه الأخيرة أن ميزان القوى بينها وبين الدولة يميل لصالح الثانية، وبأنه يتعذر هزيمة الدولة إذا تم الاقتصار على المواجهة الثنائية.

حاول الفكر التكفيري، آنذاك، التغلب على هذه الصعوبات باللجوء إلى تطوير منظومته التكفيرية، حيث تم تكفير كل من يعمل مع المؤسسة العسكرية، ثم مع الأجهزة المختلفة للدولة؛ وقد طوّر أساليبه العسكرية وفقا لتلك المسوغات الشرعية، فشرع في نصب الكمائن للجنود الجزائريين، وسنَّ لنفسه سنة القتل بالجملة في صفوف العسكريين. لكن بقيت ثغرة أخيرة كان عليه أن يقتحمها، وهي المدنيون العاديون.

شكل أبو قتادة الفلسطيني - المكنى بأبي عمر - خشبة الخلاص لهذا الفكر المتطرف الذي كان يعيش مأزقا عسكريا، إذ وجد له مخرجه الشرعي الذي كان يتوق إليه.

الفكر التكفيري ينطلق من هدف سياسي يسعى للوصول إليه، وهو السيطرة على الدولة وإضعافها وإزاحتها للحلول محلها
فخلال الحرب الدائرة بين المسلحين والنظام الجزائري أنس أبو قتادة في نفسه المقدرة على نصرة المسلحين، فتحول إلى منظر لسلوكهم الدموي، وأصدر نشرة تحت عنوان “الأنصار”، كان ينشر فيها فتاواه التي تهافت عليها المسلحون الجزائريون، بوصفها صادرة عن أبرز المنظرين الجهاديين الذين خبروا ميادين القتال، وكان من ضمن تلك الفتاوى فتواه الشهيرة عام 1996، التي أباح فيها قتل الأطفال والنساء والمدنيين.

فقد وضع أبو قتادة مجموعة من القواعد التي رأى أنها تساعد الجهاديين في التعامل مع ظروفهم التي يقاتلون في ظلها، ومن تلك القواعد القاعدة التي يقول فيها بأن “الديار التي يعيش فيها المسلمون، وكانت من قبل دار إسلام وأمان، قد انقلبت إلى دار كفر وردة، لأنها حكمت من قبل المرتدّين، ولأن الكفر قد بسط سلطانه عليها من خلال أحكامه ودساتيره”.

أحدثت تلك الفتوى نقلة نوعية خطيرة في الفكر التكفيري، وانعكست توابعها على مسار الاقتتال داخل الجزائر، إذ أصبح التركيز منصبا على استهداف المدنيين، كوسيلة للضغط على النظام الحاكم، عبر إراقة دماء المسلمين الأبرياء.

وقد تصدى جماعة من العلماء، آنذاك، لتلك الفتوى، بفتوى مضادة نشرت في أسبوعية “المجتمع” الكويتية، ولكن السيف كان قد سبق العذل، لأن تلك الفتوى انتشرت في أوساط السلفيين الجهاديين في كل مكان، وصارت مسوغا شرعيا لا يقبل النقض، حتى انتهينا إلى ما نحن فيه اليوم.

13