منفى الشعر
الوفرة الكبيرة في الأسماء الشعرية التي أصبحت تعج بها المنافي في السنوات الأخيرة، تجعل المرء يسأل عن الدواعي التي جعلت العدد يتجاوز أحيانا عدد الشعراء في بلدانهم التي جاؤوا منها؟
من الممكن إحالة سبب هذه الظاهرة إلى الازدياد المضطرد في عدد طالبي اللجوء أو الباحثين عن فرصة حياة جديدة، هربا من ويلات الحروب والقمع، أو الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في بلدانهم، لكن هذا لا يكفي لفهم عوامل الجذب الطاغية، التي جعلت أغلبهم يندفعون وراء غواية الكتابة، بدلا من التوجه نحو مجالات علمية أو بحثية أخرى!
أولى المفارقات التي يمكن أن يتوقف عندها المرء، هي أن بعض هذه الأسماء لم يكن شاعرا أو كان شاعرا مغمورا، ومع ذلك استطاع معتمدا على شطارته في الترويج لنفسه أن يقيم شبكة من العلاقات والمصالح، وكأنه بذلك يحاول التعويض عن القيمة الغائبة له في مجتمع غريب من خلال اللقب الذي يضفيه على نفسه.
لقد أسهم واقع الفساد والشللية والعلاقات الشخصية في الحياة الثقافية، في تعزيز هذه الظاهرة، إضافة إلى سهولة النشر عربيا، في حين لم يكن انتشار وسائط التواصل الاجتماعي والنشر الإلكتروني أقل تأثيرا، إضافة إلى عجز الأوساط الثقافية الغربية عن معرفة القيمة الإبداعية والجمالية لهذه الأسماء.
اللافت في هذه الظاهرة أن العديد من أصحابها أدركوا ضرورة خلق كيانات أو جماعات تشكل مظلة لهم، وفي الآن نفسه منصة للترويج والدعاية وتوزيع الأدوار لتكريس حضورهم واجتذاب ما يمكن من اهتمام الأوساط الأدبية في بلدان منافيهم، خاصة بعد أن لجأ البعض منهم إلى تقديم أنفسهم باعتبارهم الصوت المضطهد في بلدانهم.
لكن المفارق والغريب أن العديد من هذه الأسماء، لم تستطع أن تستفيد من المنجز الفكري والأدبي لثقافات البلدان التي يقيمون فيها، في تطوير وعيها ورؤيتها الجمالية للعالم، وإذا ما حاول بعضهم فعل ذلك نراه يلجأ إلى التقليد الخالي من أي قيمة إبداعية.
كذلك كان يمكن لتجربة المنفى على قسوتها ومعاناتها أن تسهم في تعميق وعي أصحاب هذه التجارب وحساسيتهم الشعرية بصورة تتطور معها العلاقة الاستعارية بين المنفى والذات على المستوى الدلالي والرمزي والجمالي، ويغدو النص تكثيفا واختزالا لعمق هذه اللحظة على المستويين الوجودي والإنساني.
لكن البعض من هذه الأسماء وبسبب غياب الموهبة آثروا الهروب من هذه المكابدة، إلى البحث عن الوسائل التي تتيح لهم الظهور والدعاية لأنفسهم حتى تجد الفضاء الافتراضي يعج بحركاتهم وسكناتهم لإشباع فضول اللاهثين وراء تسقط أخبار إبداعاتهم في عالم يكاد الشعر فيه يصبح غريبا مثلهم.
كاتب سوري