منظمات المجتمع المدني تحت رحمة التمويل والسلطة

التمويل الغربي وخاصة الأميركي للمنظمات غير الحكومية العربية نما بشكل ملحوظ لكن أسلوب تمكين هذه المنظمات لا يزال معيبا وفي الكثير من الأحيان بلا هدف.
السبت 2021/09/11
رغم الشكوك في دوافع تقديم المساعدات من الولايات المتحدة، فإن هناك دعما عريضا لزيادة معدلاته

تثير منظمات المجتمع المدني غير الحكومية الكثير من الإشكاليات، وخاصة في المجتمعات العربية بسبب تلقيها تمويلات من جانب حكومات أجنبية خاصة الولايات المتحدة، ما يجعلها متهمة بالتستر بهذه الأموال تحت دعاوى إنسانية وديمقراطية وتنموية واجتماعية لتحقيق أهداف أخرى.

لندن- تزخرُ المجتمعات العربية بالطّاقات التي من شأنِها خَلقُ فضاء للتّواصل البَنّاء بين مُكونات المُجتمع الواحد حتى تَعمل بطريقة مُنظّمة تَجعل تأثيرها على المُستوى الاجتماعي والاقتصادي ناجِعا. ومن هنا بَدأت بعض المُسمّيات في البُروز لعل أهمّها مصطلح المُجتمَع المدنيّ. وتحضر مؤسسات المجتمع المدني في الوطن العربي ضمن صورة يكتنفها اللبس وعدم الوضوح، من حيث فاعليتها وطبيعة الأدوار المنوطة بعهدتها، كما تحيطها الشبهات من جهة علاقتها بالخارج وتلقي الدعم منه.

وعلى الرغم من ازدياد عدد هذه المؤسسات، التي تعرفها الأمم المتحدة بـ”القطاع الثالث”، إضافة إلى قطاع الحكومة والقطاع الخاص، وحصولها على مكانة كبيرة في الأعوام الأخيرة، وتصديها لقضايا وموضوعات كثيرة، بعضها حساس وعلى مقدار من الخطورة المجتمعية، فإن الحصيلة ضئيلة في مقابل الضجيج الكبير الذي يصحب عمل هذه المؤسسات، وفق تعبير عدد من المراقبين.

مجتمع مدني قاصر

حنان صلاح: المرسوم يقيّد المنظمات المدنيّة العاملة في ليبيا ويخنقها بشكل غير مبرّر

لعب المجتمع المدني دورا حاسما في التحولات الاجتماعية في أوروبا الشرقية والولايات المتحدة. وفي جميع أنحاء المنطقة العربية، تم إضعاف المنظمات غير الحكومية وترويضها. في غضون ذلك، تواصل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي التأكيد على أهمية تنمية المجتمع المدني. نما التمويل الغربي وخاصة الأميركي للمنظمات غير الحكومية العربية بشكل ملحوظ. لكن أسلوب تمكين المنظمات غير الحكومية لا يزال معيبا وفي الكثير من الأحيان بلا هدف.

إن العديد من المنظمات غير الحكومية ليست في الواقع منظمات غير حكومية. وهي ما يطلق عليها المراقبون (GONGOs) – المنظمات غير الحكومية التي تنظمها الحكومة. يتم تمويلها وتزويدها بالموظفين ودعمها من قبل الحكومات. الفكرة ليست التحريض على التغيير أو إلهامه، بل السيطرة عليه وإدارته.

وحتى في البلدان التي يكون فيها من الأسهل نسبيا إنشاء منظمات مؤيدة للديمقراطية، لا تزال هذه المنظمات مقيدة بشدة بموجب القانون. ففي الأردن على سبيل المثال، يجب أن يحصل جميع أعضاء مجلس إدارة المنظمات غير الحكومية على تصريح من الأمن الداخلي. الأمر الأكثر إشكالية هو أن وزارة التنمية الاجتماعية -التي يتمثل هدفها الأساسي في مراقبة أنشطة المجتمع المدني- يمكن أن تحل محل مجالس المنظمات غير الحكومية بمجالس مؤقتة تختارها بنفسها ولديها سلطة حل المنظمات غير الحكومية تماما.

ويؤدي الخوف إلى رقابة ذاتية وخلق قواعد ذاتية التنفيذ تشجع على التكيف مع الدولة وتثبط المواجهة. والنتيجة هي أن المجتمع المدني، الذي كان يعتبر في يوم من الأيام محركا رئيسيا لإرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط، يصبح ساحة لهيمنة الدولة بدلا من “أداة التمكين الجماعي”.

ساحة نفوذ

بريكة بالتمر: المجتمع المدني يقوم بدور هام في الوقت الراهن

ينظر العديد من المواطنين في المجتمعات العربية بعين الريبة إلى النية الحقيقية وراء المساعدات الأميركية. وخلص استطلاع رأي أجرته شبكة “الباروميتر العربي”، إلى أنّ 47 في المئة من المشاركين رأوا أن الدافع الأساسي للمساعدات الغربية وخاصة الأميركية هو اكتساب النفوذ في بلادهم. بينما يعتقد 18 في المئة فقط أن الدافع الرئيسي هو تعزيز التنمية الاقتصادية. في حين ذهب 12 في المئة إلى أن الدافع هو زيادة الاستقرار الداخلي أو تحسين حياة المواطنين. وأقرّ أغلب الليبيين بأن بلادهم التي تشهد حربا أهلية من عشر سنوات باتت ساحة لشراء النفوذ بأموال المساعدات الغربية.

وكانت منظمات حقوقية انتقدت المرسوم الذي أصدره المجلس الرئاسي السابق التابع لحكومة الوفاق الوطني في 2019، ووجدت أنه يتضمّن متطلبات تسجيل مرهقة وبنودا صارمة بشأن التمويل. كما يُرهق أعضاء المنظمات الراغبين في حضور مؤتمرات ومناسبات أخرى بشرط الإخطار المُسبق.

وقالت حنان صلاح، مديرة ليبيا في منظمة هيومن رايتس ووتش “هذا المرسوم يقيّد المنظمات المدنيّة العاملة في ليبيا ويخنقها بشكل غير مبرّر، وهو مُقلق بشكل خاص في ضوء الحاجة إلى مجتمع مدني قوي قبل الانتخابات المخطط لها في ديسمبر. على السلطات الليبية مراجعة أو إلغاء هذا القانون الذي من شأنه إسكات المجموعات التي تقوم بعمل حيويّ في المجالين الحقوقي والإنساني”.

من جانبها، قالت المستشارة بريكة بالتمر رئيس مفوضية المجتمع المدني بليبيا “إن المجتمع المدني يقوم بدور هام في الوقت الراهن، ومنذ فترة طويلة، خاصة أنه لا توجد أي انقسامات بين المجتمع المدني الذي يعمل على ضرورة الاستقرار، في حين أن الاختلافات بين الساسة لتقسيم الكعكة، مؤكة على دور المجتمع المدني في المصالحة ودعم الاستقرار”.

في المقابل كان التونسيون الأقل اعتقادا بأن المساعدات موجهة لاكتساب النفوذ في بلادهم، وجاءت إجاباتهم موزعة على بنود أخرى إنمائية.

وأظهر استطلاع الرأي أن 69 في المئة من الليبيين يعتقدون بأن المساعدات الغربية لبلادهم موجهة لاكتساب النفوذ. تلتها لبنان بنسبة 63 في المئة، ثم الجزائر 55 في المئة، وفلسطين 54 في المئة، والأردن 52 في المئة، واليمن 51 في المئة . في حين وضع أقل من 50 في المئة، من شعوب السودان 42 في المئة، ومصر 37 في المئة، والمغرب 33 في المئة، والعراق 30 في المئة، وتونس 29 في المئة، رأيهم في المساعدات بخانة اكتساب النفوذ.

شجاعة محسوبة

ويتميز المجتمع المدني التونسي بشجاعته. إنها ليست شجاعة عمياء فظة، ولكنها شجاعة حادة ومحسوبة. وبعد ثورة 14 ينابر 2011 تشكلت حوالي 11400 منظمة من منظمات المجتمع المدني. تعمل هذه المنظمات في كل شيء من الحوكمة والمساءلة في القطاع العام إلى حماية حقوق الأقليات. لحسن الحظ، وعلى عكس الحكومة المقالة والبرلمان المجمد، فإن هذه المنظمات موجودة في جميع أنحاء البلاد.

وعلى سبيل المثال تعمل منظمة “أنا يقظ” على مكافحة الفساد في جميع أنحاء تونس. ومن المهم الإشارة إلى تطور منظمات المجتمع المدني في تونس منذ ثورة 2011 إذ تلعب دورا حيويا في إضفاء الطابع الديمقراطي على الدولة، وتمثل ركيزة أساسية في المجتمع التونسي.

وبالنسبة إلى مصر بينما تشهد مصر طفرة تنموية خلال الفترة الأخيرة، فإن أغلب المصريين المستطلعة آراؤهم، يعتقدون بأن المساعدات الغربية موجهة للتنمية الاقتصادية. وتلقت مصر خلال السنوات الأخيرة مساعدات ومنحا سواء عربية أو غربية، تقول الحكومة إنها موجهة للتنمية المحلية. وأحدثت البلاد طفرة على مستوى البنية التحتية وقطاع الطرق، كما دشنت مشروعات قومية عملاقة بمشروع محور قناة السويس، والعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة السياحية.

لذلك، قال 24 في المئة من المصريين المشاركين باستطلاع الرأي إن المساعدات موجهة للتنمية الاقتصادية، وهي النسبة الأكبر من بين دول المنطقة. على أن الكثير من المواطنين في المنطقة أعربوا في واقع الأمر عن تفضيل زيادة المساعدات الأميركية. حيث كان يعتنق هذا الرأي أكثر من نصف المواطنين في كل من الأردن 69 في المئة، والسودان 63 في المئة، ولبنان 54 في المئة، والمغرب 53 في المئة، ومصر 52 في المئة، وكذلك فإن نسب المؤيدين له كانت كبيرة في كل من فلسطين 49 في المئة، والعراق 48 في المئة، وتونس 45 في المئة. في ليبيا والجزائر فقط أعرب أقل من الثلث عن تفضيل زيادة معدلات المساعدات الأميركية.

يمكن تفسير الرغبة في زيادة المساعدات الأميركية جزئيا بأن الكثير من المواطنين يعتقدون بأنها مفيدة لبلادهم. في استطلاعات أجريت في 2020-2021، قال أكثر من 4 من كل 10 أشخاص إن المساعدات الأميركية تساعد في الدفع بحقوق المرأة في كل من لبنان 48 في المئة، وتونس 45 في المئة، والأردن 43 في المئة. بالمثل، فإن 4 على الأقل من كل 10 أشخاص قالوا إن المساعدات الأميركية تعزز المجتمع المدني في بلادهم، في كل من لبنان 50 في المئة، وتونس 46 في المئة، والمغرب 41 في المئة، والأردن 40 في المئة.

لكن عند طرح سؤال عن أهم مجالات المساعدات الأجنبية، كان الرد الأكثر شيوعا هو تحسين التعليم، بما يشمل 45 في المئة في المغرب، و41 في المئة في الجزائر، و40 في المئة في ليبيا، و37 في المئة في الأردن. ثاني أهم ملف في نظر المواطنين كان تحسين البنية التحتية، بنسبة 39 في المئة في ليبيا، و39 في المئة في العراق، و29 في المئة في تونس، و27 في المئة في لبنان. بالمقارنة، فإن 15 في المئة أو أقل في جميع الدول المشمولة بالاستطلاع يعتقدون أن المساعدات الأجنبية يجب أن تستهدف بالأساس دعم حقوق المرأة. وباستثناء لبنان 20 في المئة، فإن 11 في المئة أو أقل في كافة الدول المشمولة بالاستطلاع قالوا المثل عن المجتمع المدني.

نظرة براغماتية

الليبيون لا يثقون في المساعدات
الليبيون لا يثقون في المساعدات

إجمالا، تُظهر هذه النتائج أن المواطنين في المنطقة ينظرون إلى المساعدات الأميركية بشكل براغماتي. رغم أن الكثيرين لديهم شكوك في دوافع تقديم المساعدات الأجنبية، فهناك دعم عريض لزيادة معدلاتها من الولايات المتحدة الأميركية. ثمة شعور بأن المساعدات تحقق فعلا أهدافها المرجوة، مع اعتقاد بأن المساعدات يجب أن تستهدف بالأساس تحسين التعليم والبنية التحتية، بافتراض أن هذا الإنفاق سوف يساعد في تحسين الفرص الاقتصادية للأفراد ودولهم بشكل عام.

يمكن تفسير الرغبة في زيادة المساعدات الأميركية جزئيا بأن الكثير من المواطنين يعتقدون بأنها مفيدة لبلادهم. في استطلاعات أجريت في 2020-2021، قال أكثر من 4 من كل 10 أشخاص إن المساعدات الأميركية تساعد في الدفع بحقوق المرأة في كل من لبنان وتونس والأردن. بالمثل، فإن 4 على الأقل من كل 10 أشخاص قالوا إن المساعدات الأميركية تعزز المجتمع المدني في بلادهم، في كل من لبنان وتونس والمغرب والأردن.

وقدّر مركز أبحاث الكونغرس حجم المساعدات الأميركية لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الـ75 عاما الماضية بأكثر من 346 مليار دولار. ولفت إلى أنّ هذه المساعدات تذهب إلى الإنفاق على عدة ملفات، منها العسكرية والإنسانية  والتنموية.

يمكن تفسير الرغبة في زيادة المساعدات الأميركية جزئيا بأن الكثير من المواطنين يعتقدون بأنها مفيدة لبلادهم

وأشار التقرير إلى أن المساعدات الأميركية في السنة المالية 2021 (تبدأ في أكتوبر)، تبلغ 6.6 مليار دولار لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهي ما تمثل 15 في المئة من ميزانية وزارة الخارجية الأميركية. هذا بخلاف المخصصات السنوية للمساعدات الإنسانية الطارئة، والتي لم يتم تضمينها في أرقام المساعدات الخاصة بالمنطقة.

وتشير التقديرات إلى أن منطقة الشرق الأوسط ستتلقى 42 في المئة من المساعدات المحددة جغرافيا في ميزانية المساعدات الأميركية. وخلال السنوات السابقة استحوذت ثلاثة بلدان هي مصر والأردن وإسرائيل على أكثر من 90 في المئة من المساعدات الأميركية، وفق تقرير مركز أبحاث الكونغرس.

20